المنطقة الحرة

هنا الجنة!

صديقي الحكيم،

تحية طيبة وبعد،

سألنا أستاذنا في مجلس اللغة العربية أن نكتب عن مشاعر فرحةٍ هزت قلوبنا، فتحيّر فكري يا سيدي، فمن أين أبدأ؟!

أقول ذلك لأنك تعلم أنني مررت بلحظاتٍ عديدة كاد قلبي يقف فيها فرحًا من الجبر ومن عجيب التدبير، ومن ذهول عقلي مما تفضل به الله عليّ.

هل تذكر يا صديقي يوم كنت عائدة من عملي في خريف عام 2017 بعد يوم ثقيلٍ وتمنيتُ لو تُمطر السماء، فأمطرت! فأصحبت كالطفلةِ، حتى إن سائق الميكروباص قال لي “انزلي قليلًا لو أردتِ”، وابتسم لي بلطفٍ على غير عادتهم!

أم هل تذكر ذاك اليوم الذي بدأت فيه قصتي معك أنت، بعد مرضٍ وابتلاءٍ ألمَّ بي، فاستشعرت قرب الله مني كما لم أستشعره أبدًا من قبل، كأن الحجاب رُفع وكأنني أرى بعين اليقين، وكأن ما مسني ألمٌ من قبل! وحين خرجت كان أول ما كتبت “إلى صديقي الحكيم…”

لكن عقلي وقلبي يذهبان بي الآن إلى رمضان عام 2019، عندما وقع في قلبي شوقٌ عجيب للعمرة، شوقٌ تملَّكني للروضة الشريفة، كنت أسكن في بيتي.. وقلبي وعقلي وروحي مُعلقة بجوار رسول الله -صلى الله عليه وسلم-  كانت أمي تنظر إلى حالي وتُشفق علي وتقول لي “ربنا سميع هيوديكِ، خليكي واثقة”.

تتوالى الأحداث وأضع جبيني على الأرض “مش هتحرَّك من هنا إلا لما تودّيني أنا محتاجة وماعنديش مكان تاني أروحه”!

وفي يومٍ كاد يتملك قلبي اليأس وأنا أشاهد قناة السنة النبوية، وأستمع إلى قارئ الأحاديث وهو يقول “فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه”، فأنظر إلى نفسي وأبكي، أقول “لم أحصّل إحداهما، شكلي مش نافعة في حاجة!”.

أقسم بالله لم تمضٍ أربعٌ وعشرون ساعة وكنت أُبلَّغ أن تأشيرتي وتذكرتي جاهزتان للعمرة!

تسألني كيف؟ أقول لك: ومنذ متى والله يخذل عبدًا لجأ إليه يا سيدي! حاشا الكريم أن يرد يدي عبده، حاشاه أن يفعل!

تنتظر أن أخبرك أن أسعد اللحظات يوم رأيت الكعبة؟

أقول لك، لا، بل لنقل هي من “أسكن” اللحظات!

هل تعرف شعور العائد إلى البيت بعد جُهد طويل جدًا، فيهدأ كل شيء حوله، ويغفو طويلًا آمنًا مُفلتًا يديه مُتجرّدًا من كل شيء حتى من عبء نفسه؟

هكذا كنت بالضبط!

أما عن السعادة والفرح، فهذا منظري يتراقص أمامي الآن وأنا أدوِّن لك حكايتي تلك.

كان فجر أول يومٍ لنا في المدينة المنورة، عند رسول الله، دخلنا الروضة -ويا للعجب- عند أول وصولنا، صلينا العشاء، وقيل لنا إن هذا هو وقت دخول السيدات، دخلنا، بكيت كما لم أبكِ إلا يوم رحيل أمي، بكيت شوقًا وجلالًا وخشيةً، ها هنا سيدي رسول الله. هو هنا، وهو يعلم أننا هنا، وتصله صلاتنا عليه فيجيبنا بالسلام، سيدي يقول لي “وعليكِ السلام يا أميرة”!

في القلب وجل! خرجنا قبل قيام الليل والفجر، عُدنا إلى غُرفنا، هدنةً لنستوعب ما حدث، ثم صلاة الفجر، ويا للعجب، مسموحٌ لنا بزيارة أخرى من بعد الشروق حتى الظهر! هل تستوعب الوقت!

عند الحبيب وفي الروضة، في بقعة تنبض بالحياة أكثر مما نحياه الآن! هنا الجنة، هذه هي الجنة بعينها، ها هنا مواضع قدم سيدي رسول الله!

خرجت مع صديقاتي، وتسللت من بينهن، وشعرت بقلبي يرقص داخلي طربًا وحُبا وشوقًا، كدت أدور وأدور لولا احترام الموضع والمكان، ولكن كل عَظْمَة فيّ ليست بمكانها، كل شيء في جسدي ينتفض محبةَ وشوقًا يحرّكني ويدفعني ويحملني وكأنني لا أسير على الأرض بل أطير!

كان الله لطيفًا بنا في تلك الزيارة، ولم يزل!

هل تدرك أننا قبل أن نعود إلى بيوتنا مرةً أخرى، ويا للعجب فُوجئنا بفتح جانبٍ آخر من الروضة لم يكن يُفتح للنساء منذ فترة، حيث باب سيدتنا البتول الزهراء فاطمة بنت رسول الله، وحيث يمكننا أن ننظر في الحجرة فنجد مواضع دفن رسول الله وصاحبيه والعلامات الدالة عليه.

أيُ لطفٌ يمكن أن يشمل الواحد أكثر من أن يمنَّ الله عليه بدخول الجنة ثم يُعينه على الصبر ويتلطّف به مرةً أخرى حتى يستطيع مواصلة الحياة في دنيانا هذه من بعدها!

أتذكّر الآن كلمات المنشد حين يقول “هل لنا في عودة صادقة ورجاءٍ إنه الحصن الحصين؟”.. فهل لنا يا سيدي أن نعود ونستقر هناك مرة أخرى وللأبد!

أميرة توفيق

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى