بين “استعَبَط و”هَجَّ و”سَاب”.. هل اللغةُ العربيةُ مُنغلقة على ذاتها؟
جميلٌ أن تكون اللغة العربية حاضرةً على الساحة، وإن بين حينٍ وآخر، سواء بكلمة يبحث لها الناس عن جمع، مثل “حسام” التي وردت في امتحان الصف الأول الثانوي هذا العام، أو بلفظة عدَّها مَجْمَعُ اللغة العربية فصيحة وكنَّا نحسبها عامية، مثل “استعبَط”.
صحيح أنه اهتمام مؤقّت، يقوده “التريند”، لكنه محمودٌ على أيِّ حال، إذ يدفع قطاعًا عريضًا اللغةُ ليست من أولويّاته، إلى البحث والتفتيش بين المفردات، ومن يدري لعلَّ سحرًا يمسّه ذات مرة ويخشع قلبه لمُفردة أو بيت شعر يقرأه، فتكون بداية علاقة جديدة وحقيقية بينه وبين أمِّه اللغة.
ولعلَّ المُتابع لما يُجيزه المَجمع في جلساته، ويُصدره في كتابه “الألفاظ والأساليب” تحت إشراف “لجنة الألفاظ والأساليب” التي تتحرَّى ما يستجدّ من ألفاظ وتراكيب مُحدَثة تدور بين أقلام الكتاب، ولها وجهٌ من الصواب اللغوي، وإن لم تسجِّلها المُعجمات القديمة، يشعرُ بالدهشة أحيانًا وبالسرور أحاييين أخرى لِما يجده من طرافةٍ لا تخفى على أحد في بعضها، والاشتباك الحادث بين الفصحى والعامية باعتبارها منتجاتٍ إنسانية في النهاية وإن اختلف الظرف التاريخي الذي أدَّى إلى ظهورها وتطوّرها.
ومن ذلك مثلًا كلمة (زَهَق) التي تقدَّم الدكتور شوقي ضيف ببحث للمجمع لإجازة استعمالها، بمعنى ضَجِر ضَجَرًا شديدًا. يقول ضيف: (في معاجم اللغة: أصل معنى زَهَق: هلك، واستعملتها العامة في الضجر الشديد. يقال: حدثني عن مشكلته وكرَّرها عليّ حتى زهقت، أي: حتى ضجرتُ ضجرًا شديدًا، وهو استعمال مجازي واضح.
والقائمة تتسع لتشمل سلَّى نفسه بالقراءة أي صرفها إليها، سلَّى فراغه بالحديث أي شغله به، وكذا: شَبْرَقَهُ بمعنى أسعدَه بمنحِه مالًا؛ توسّعًا في معنى كلمة “شَبْرَق”، الدالة على التمزيق، وكبَّ الماء من الإناء بمعنى سَكَبَه، وهي لا توجد في المعاجم بهذه الصيغة، وإنما فيها: كَبَّه إذا صرعه، وكَبَّه على وجهه إذا ألقاه وانقلب، وكأن العامة وسَّعت في معنى الكلمة وأطلقته على مُطلق الرمي أو الدفع، ومنه رمَى الماء، وبذلك تكون كلمة كبَّ الماء من الإناء سائغة صحيحة.
ولا يفوتنا: تمزَّع الثوب أي تمزَّق، والنُّقُوط بمعنى الهدية للعروسين في حفل الزفاف، وهَجَّ بمعنى فرَّ واختفى، ووجَّت النارُ أي تلهَّبت وتوقَّدَت، وسابَ الشيءَ بمعنى تركَه، وغيرها.
وإن أثبتَ ذلك شيئًا فأنَّ في العربيةِ من المرونة والنُضج ما يُمكِّنها من الاشتباك والتفاعل مع مُحيطها الاجتماعيّ دائمًا، والتوسّع في استخدام إرثها اللفظي بما يناسبُ العصرَ ومستجدّاته، ويُغطِّي احتياجات متحدِّثيها، لكن آفة حارتنا النفور من كل قديم والتعلّق بأذيال كل مُستحدَث، والاستسلام لما يُراد بنا مَن النفور من لغتنا والانفصال عن عطائهًا وصولًا إلى فقدان هُويّتنا وتحوّلنا مسوخًا مثل غيرِنا، بلا ظهر ولا سند ولا امتداد حضاري ضارب في القِدَمِ!
اقرأ أيضا:
هل اللغة العربية مهمة في عصر الذكاء الاصطناعي؟
تعليم اللغة العربية للأطفال: دليل شامل للآباء والأمهات
كيف بدأ تسويق المحتوى؟ وما الذي تحتاج إليه لتبدأ ترويج محتواك؟