حسام الآخَر
حسام وِحِش..
لأنه استيقظ من نومه ذات يوم، فشعر بلا جدوى الحياة، وضحالة كل ما حقّق عبر مشواره الطويل، وضيّع في سبيله ساعات ثمينة من عمره لن تعود، ولم يعد يجد طعمًا لأي شيء!
توقّف عن الإحساس بالسعادة والأمل، فعجز عن منحهما لمن حوله، وأصبح لا يرى شيئًا إذا أطلق بصره للبعيد، مستشرفًا المحطّة المقبلة لمستقبله.
كسيارة ارتطمت بأقصى سرعتها بالحائط، فتهشّم محركها، ولم تعد تقوى على الحركة سنتيمترا واحدا!
حسام فتّش في أعماقه، كما يفعل كلّما واجهه أمرٌ مُلغِز، محاولا اتّباع الأسلوب العلمي الذي قرأه في الكتب، من تحديد المشكلة، وفرض الفروض، وتجربتها جميعًا، وصولا لحل نهائي.
لكنه هذه المرّة، لم يصل لشيء!
حسام ألصق ظهره بالحائط على فراشه، وضم رجليه بقوة لصدره، وسرح في السقف. في الخلفية كانت تدور موسيقى جنائزية، لا شكّ أنه استمع إليها في مرحلة ما من حياته، فأثّرت فيه، فاختزنها عقله يومها، كي يعيد إنتاجها اليوم، بدا الجو ملائمًا للغاية لتقديم كشف حساب عما فعله في العمر الذي انقضى.
حسنا يا عم حسام ماذا فعلت فيما مضى؟
الحقيقة أن حسام تزوّج وأنجب وأصدر كتبًا وعمل في وظائف مرموقة، وتعلّم الكثير من الأشياء، واكتسب العديد من الصداقات، لكنه نسي شيئا واحدا في خضم كل هذا.. أن يعيش!
كان يستيقظ من النجمة كي يذهب لعمله الأول، فيستغرق فيه تمامًا ويتوحّد به، حتى ينسى أن يأكل، أو يتصل بزوجته ليطمئن عليها، وعندما تدقّ الساعة الخامسة، يهرول كالمجنون، فأمامه ساعة واحدة قبل بدء عمله الثاني، وعندما يصل إليه، يستغرق فيه مرة أخرى، ويتماهى معه، ربما يتذكّر أن يأكل ساندويتشا أو بسكوتة، وربما لا، فإذا دقّت الساعة الثانية عشرة مساء، هرول مرة أخرى، كي يجد مواصلات تنقله لمنزله، وعندما يصل، تستحلفه معدته أن يضع فيها أي شيء، ولو خبزًا جافًا، فيفعل على مضض، وهو مستاء من رضوخه لهذا الابتزاز، قبل أن يفتح “اللاب توب” ليبدأ عمله الثالث، حيث يترجم شيئا، أو يكتب مقالا، أو يجهّز عمل الغد، حتى يأخذه النوم من نفسه غصبًا، فترتخي أعصابه، ويهدأ محرّكة وإن لا ينطفئ تماما، ويغلق عينيه ثلاث أو أربع ساعات، قبل أن يدّق جرس المنبه فجأة، فينتزعه انتزاعًا من نومه، ويضعه في الدائرة مرة أخرى!
عندما وُلد ابنه ، ترك أمه مع أخته وأهلها لدى الدكتورة. وهرول للمنزل، على وعد بالعودة خلال ساعة، بعد انتهائه من إرسال ملف مهم للشغل، طبعا لم ينتظره ابنه، علم أنه فوّت على نفسه هذه المعجزة، فتواطأ مع الظروف كي يجعل الفوات مطلقا. وعندما ولدت ابنته كان أيضا في الشغل، وبينه وبين أمّها 160 كيلومترا، فتابع أحداث خروجها للدنيا عبر سماعة هاتف ضنينة. أول يوم لابنه في الحضانة، لم يحضره، وحفل انتقاله للسنة الثانية، فاته، أول مرة سارت فيها ابنته، لم يرها، واليوم الذي مرضت فيه بشدة، واضطرت أمها للجري بها في “أنصاص الليالي” على الدكتور، لم يكن هناك، كان في “الشغل”!
بدأ تعلّم الإنجليزية، ولم يُكمل، التحق بالجامعة المفتوحة، ولم يتمكن من دخول الامتحان، تعرّف أصدقاء كثيرين، ولم يلتق بهم مرة واحدة خارج المكتب، كتب عن فعاليات ثقافية وفنية لا حصر لها، لم يحضر أيا منها أبدا، كان دائمًا في “الشغل”!
كان يتحرّك دائمًا وفي قلبه خوفٌ من المستقبل، وانقطاع الرزق، يخشى أن يأتي عليه يوم، يمدّ فيه يده للناس، بعد أن عجز عن الوفاء بمسؤولياته. مع أن الله لم يخذله أبدًا، لكنه كان بشريًا تقليديًا للغاية، يقول إنه يثق في الله ورزقه، بلسانه فقط، دون أن يتحوّل ذلك إلى يقين راسخ في أعماقه، يمكن أن يؤسّس عليه قرارته!
منذ شعر أنه وحده في الدنيا، بلا أخٍ غني يعتمد عليه، أو قريب ضابط شرطة أو رجل أعمال، ومنذ توفي والده، الذي كان ظهره وسنده، وهو يتحرّك بحذر ورعب، يحاول توطيد علاقته بالناس جميعًا، كي يأمن شرهم، يبذل أقصى طاقة في عمله، كي لا يمكن الاستغناء عنه، يتعلّم كل شيء، كي لا يحتاج يوما إلى أحد!
وهكذا أمضى عمره، يجري ويجري ويجري، دون حتى أن يعرف لماذا يجري! يتفرّج على الحياة ولا يعيشها، يدفع الساعات والأيام والسنوات، وتدفعه، على غير هدى، ودون نهاية، ودون معنى، حتى تعب، فتوقّف.
حسام اكتشف أنه طوال السنوات الماضية، كان يعيش حياة الآخرين، ويدفع ثمن مشاريب غيره، لم يكن يختار ما يوافق شخصيته ويلبّي رغباته، ويعبّر عن حقيقة انحيازاته في الحياة، إنما ما يجعله “يبدو” محترمًا وناجحًا في عيون الآخرين فقط، ويحتفظ له بصفات المؤدّب وابن الناس والملتزم، إذا ما جرت سيرته على أي لسان!
لم يكن له عطر مفضّل، أو طعام يحبّه دون غيره، أو ملابس يعجبه شكلُه فيها، أو حتى مشروب يفتقده فيسعى لتناوله ويبتهج بذلك، لم يرتبط بمطرب أو أغنية أو فيلم، لم يكن يختلف كثيرًا في الواقع عن الإنسان الآلي، اللهم إلا أن الآلي ربما يتغيّر برنامجه يومًا ما، في حين كان هو ببرنامج واحد فقط!
أفاق فجأة، فوجد نفسه صفر اليدين من كل متع الحياة!
وفي اللحظة التالية لم يعد يشعر بطعم شيء.
أو شعر، لكن بالجوع، لتجربة كل ما حَرَم نفسه منه!
عاد مراهقًا يتمنّى تغيير طريقة لبسه، وتسريحة شعره، وشكل علاقاته مع الناس، والتعرف على وجوه جديدة، وثقافات مغايرة.
قرّر تجربة الممنوعات، ولو مرّة، ورغب في أن يكون طرفًا في علاقات مزلزلة تحرّك مشاعره التي ماتت!قرّر أن يتعلّم النفاق و”التعريض”، ويبدأ في تطبيقهما بشكل جاد، كي يأخذ حقّه المهدر في عمله، وبين الناس، وكي تكفّ الفرص عن الفرار من وجهه، لمجرد أنه لا يجيد أساسيات الحياة المعاصرة.
قرّر أن يغيّر جلده تمامًا، ويكون أي أحد آخر، إلا نفسه!
وتكلّم حسام. عندما لم يعد قادرُا على استيعاب ما يحدث له، فضفض بما يجد في نفسه لبعض الصحاب.
أحدهم مصمص شفتيه، وضرب كفًا بكف، وقال له محذّرا: هذا “بَطَر” على النعمة، آتاك الله من كل شيء سببًا، فاحمده على ذلك، واستعذ من الشيطان. أنت في مرحلة خطيرة من حياتك، والغلطة بـ”جون”. لا تفسد كل ما سعيت لتحقيقه وبذلتَ من أجله كل هذه التضحيات.
وآخر قال له بلا مبالاة حقيقية: سو وات؟ كلنا كده، أهي أيام وبتعدّي، إيه الجديد اللي إنت اكتشفته يعني. دونت مينشن إت، كمّل حياتك عادي.
وثالث صرخ في حرقة: ده أنا، أنا ده، إنت بتتكلم عني بالظبط. والله العظيم أنا كمان بقيت كده! لكنه لم يفعل أكثر من ذلك، ولم يضع يد حسام على حل!
كان حسام وحده تمامًا في مواجهة هذا الطوفان الذي تعلو موجته يومًا بعد يوم.
أصبح يتأخّر على عمله، ويفقد تركيزه بسهولة، ويثور لأتفه الأسباب، ويعاني للعثور على فكرة مقال أو كتابة نص، تشابهت عليه الساعات، فلم يعد يميّزها، أهمل طعامه أكثر من السابق، وزاد سرحانه، حتى أصبحتْ عودته لمنزله سالمًا دون أن تدهسه سيارة، معجزة يومية، وكثيرًا ما كان يقف فجأة وهو سائر في الشارع على غير هدى، ويقرّر ألا يتحرك خطوة واحدة، إذ يشعر باختناق روحه، وصداع هائل يطحن رأسه، ورغبة ممضّة في الصراخ وتحطيم كل شيء، ثم سرعان ما يسيطر عليه مرة أخرى الشعور بعدم الجدوى! يتعلّق بقشة، فيُخرج هاتفه، ويفتش بين عشرات الأسماء المسجّلة عليه عن شخص، شخص واحد فقط، يُفضفض معه، ويبكي، فيتقبّله كما هو، ولا يحاكمه، ولا يتهمه بالجنون، أو الانحراف، أو الكفر بنعم الله عليه، فلا يجد، الجميع لديه مشاكله، وهمومه، وتحيّزاته المسبقة، لن يستوعبك أحد، ولن يسامحك أحد على الاتصال به في هذا الوقت للحديث عن تهويمات ومشاعر غامضة لا تهم أحدًا سواك!
يُجرجر قدميه، ويتحرّك للأمام مجبرًا، ناظرًا للسماء، مفتّشًا عن ثقب ضئيل يسمح بنفاذ شعاع واحد من النور.
من شدة الألم. بدأ حسام بالفعل رحلة التغيير، وحاول أن يقترب من أغلب الأشياء التي قرّر تجربتها، كان مدفوعًا برغبة جبّارة في ألا يعود لحفرة اليأس ثانية. وأن يقاتل لآخر رمق، كما كان يفعل طوال حياته. حاول جاهدًا أن يقشّر جلده ويعثر تحته على شخص آخر ملائم أكثر للمرحلة، أن يفتح رئته للهواء المغاير، ولو أحدث في حلقه ثقبًا بقلم جاف، كما رأى الأطباء في الأفلام يفعلون ذلك مع الموشك على الاختناق، كان مخلصًا في العثور على خلاص روحه، لكنه فشل.
فشل فشلا مدويًا وطاحنًا ونهائيا في الواقع، غلبته طبيعته، وتسلّط عليه جُبنه، وفاجأته نفسه –وقت الجدّ- بما لم يكن يعمل له حسابًا!
والذين تعشّم فيهم، واتكأ على أكتافهم، ورأى في عيونهم نورًا يمكن أن يكون دليله في ظلمته، خذلوه، وهو حقّهم بالتأكيد، لكن ذلك جرحه، وأعاده لنقطة الصفر التي قاتل طويلا كي لا يرى خِلقتها مرة أخرى. أعاده للهاوية التي اتسعتْ الآن أكثر من ذي قبل، وأصبحت أقرب إليه من حبل الوريد.
فشل حسام في أن يكون شخصا آخر!
وفشل في أن يعود لنفسه الأولى!
فقرّر أن يكفّ عن الكلام، وعن الكتابة، فلم يعد شيء يجدي.