المنطقة الحرة
خشونة الدعوة إلى الله!
الدعوة إلى الله لعلَّ آفتنا الحقيقية: الفصل بين الدين والأخلاق في أداءاتنا، وقَصْر التدين على الطقوسية وما يراه الناس فقط ليقيّمونا به ويمنحونا صك الصلاحية المجتمعية، فيما السريرة خربة لم يصلها من نور الإيمان شيء ولا أدركتْ مقصودَ الله ومراميه -جلّ شأنه- من كل هذه النواهي والأوامر والرسالات والمحن والابتلاءات، ولا استطاعت تكوين وجهة نظر حقيقية مربوطة بالأسباب في أي شيء!
مع أن أساس العقيدة السليم ليس الانقياد والتقليد وإلقاء مسؤولية التفكير على سوانا والاكتفاء بتنفيذ برامج افعل ولا تفعل كأننا كومبيوترات لا تملك من أمرها شيئًا، ولكن التدبر وإعمال العقل وتشغيل الفكر والقياس والقراءة النقدية واستنباط المغزى والباطن لا الظاهر فقط، للوصول إلى القناعات الأساسية من طريق الاستيعاب والفهم والإحساس المباشر (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) والاستمرار في التلقي وقراءة المعطيات وربط هذه العملية المعرفية المرهقة -الممتدة من لحظة الخلق إلى لحظة الخروج- بالخالق ذاته (اقرأ باسم ربك الذي خلق)، وتحويل كل هذا إلى سلوك وممارسة فعلية يبدو فيها الفارق بين المُسَاق والفاعل عن وعي وخطة واستطاعة.
خشونة الدعوة إلى الله
لذا اختفى لدى أغلب الناس التعاطف، والتماس العذر لدى الخطأ، وتفهّم طبيعة الضعف البشري، وتلقي مقاصد الشريعة وفلسفة الأوامر والنواهي وحدود المنح والمنع، واللين والرأفة والإمهال، وانتشرت الوصاية و خشونة الدعوة إلى الله والتنمر، والعجرفة والكِبر، والادعاء، وإساءة الأدب في مقام النصيحة، والإقصاء، والجهاد الإلكتروني، والشوفونية، وعدم تقبل الآخر أو الاعتراف بحقه في تقرير مصيره.
الله نفسه منح الإنسان حرية الإيمان به أو الكفر، دون انقطاع مخصّصاته التي تُعينه على الحياة كالرزق مثلًا أو التنفس، ليكون حرًا حرية مطلقة في تقرير ما يراه صالحًا لطينته من عدمه، ومن ثمَّ يتحمل نتيجة اختياره في الدنيا والآخرة، لكن بعضهم يرى أن في إجبارك على اعتناق مبادئه وتبنّي وجهة نظره في الحياة وتعاطيه مع مختلف القضايا، من صميم تخصصه بل وربما رسالته الأسمى في الحياة وانتصاره الوحيد، والخروج عليها -وليس على الله!- كفر ليس بعده كفر يستحق النَبذَ والعقاب، كأنه يضع خطة أخرى غير خطة الله سبحانه، أو يرسم صورة لرؤيته هو لله وليس لله نفسه!
إنها محنة عقلية لا إيمانية، أزمة داعٍ لا دعوة، خلل متدين لا دين، لذا يستمر المجتمع في إبراز نماذج لا تليق باللحظة، ولا باستيعابها، ويستمر الصراع بخصوص بديهيات كان أولى من مناقشتها والاستسلام لمنطقها، الإجابة عن أسئلة الحياة الكبرى والتواؤم مع التغيرات الكونية في عقل الإنسان واختلاف حاجاته وقدرته على التلقي والتأويل.
والأسوأ أنه لم يعد لدى إنسان العصر الحديث قضايا كبرى كفاية تشغل عقله ووقته وتستفز ملكاته، فقد أصبح كل شيء تحت رجليه حرفيًا بضغطة زر، لذا أصبح يحترف إضاعة الوقت في ما لا يفيد ولا يبقى له أثرٌ بعد رحيله، دون أن يعي أن هذا الوقت: عمره غير المُسترَد وحياته المنقطعة!
يحدث للآخرين فقط!
ومهما شيَّع من جِنازات ووارى في التراب من جثامين، يظل يقينه الخفي -الذي ربما لا يعلنه حتى لنفسه!- أنه خالد وعظيم وأن هذه الأشياء تحدث للآخرين فقط، أما هو فمالك الحقيقة المطلقة والعالِم بما لم يُحط به غيرُه خُبْرا، التقيّ النقيّ صاحب الأيادي البيضاء على الجميع، لذا لا يستعدّ للحظة الرحيل إلى موطنه الحقيقي وبلده الأبديّ، إلا كما يستعد لأي شيء آخر في حياته؛ بقليل من الاهتمام وكثير جدًا جدًا من اللا مبالاة والتسويف واليقين بخصوصيته وفرادته والأمل الساذج غير المُبرَّر إطلاقًا بأن كل شيء، كل شيء، سيكون على ما يرام!
اقرأ أيضَا: