المنطقة الحرة

حارس السعادة العادية

تدقيق لغوي: جهاد السنيطي

أسعدتني دعوة صديقي الجميل حسام مصطفى إبراهيم للمشاركة في ملف يحتفي بعمر طاهر بمناسبة عيد ميلاده.. أسعدتني حقًّا.. ثم حدث ما يحدث عادة أن سرقني الوقت وتجاوزت الموعد المتفق عليه. وحسام شخص مهذب جدًّا، لم يرسل ثانية أو يلحّ، رغبة في ألا يسبب حرجًا، وكان من حسن حظي أنه قرّر نشر الملف على حلقات وليس مرة واحدة. وأرسلت أسأله إن كانت الفرصة فاتتني.

والحرص على المشاركة ليس لكوني أتصور أن لدي شيئًا جديدًا أقوله عن عمر، خصوصًا وسط عدد كبير من المشاركين في الاحتفاء به من أصدقاء ومحبين، لكنها فرصة لطيفة فقط للتعبير عن المحبة لصديق وكاتب.

لم أقل لعمر من قبل إنني أحبه وأحب ما يكتب، وإن كنت متأكدًا أنه يعرف وأن الود والتقدير موصول.

التقيت عمر للمرة الأولى نهاية 2012 في رحلة امتدت أسبوعين إلى تونس، إذ كانت مصر ضيف شرف أوّل معرض دولي للكتاب هناك بعد الثورتين -التونسية والمصرية- ونحن ضمن وفد يضم عددًا من أجمل الأصدقاء المشتركين، وأنا مع الوقت صرت أعرف أن الصداقات التي تبدأ في سفر يحدث فيها شيء عميق أكثر من غيرها،  يبدو أن المتعارفين في سفر لا يوجد في وعيهم فكرة دوام التواصل شرطًا للود والمحبة، تجمعهم الذكريات الحلوة، المشي جماعة في شوارع يرونها للمرة الأولى، الجلوس في مقاهٍ غير المقاهي، البحث عن مكاتب صرافة لتغيير العملة، محاولة اللحاق بآخر مواصلة في مدينة تغلق شوارعها عند الثامنة مساء، السباق مع الوقت في اليوم الأخير لشراء الهدايا، المواقف “البايخة” أو اللطيفة في المطارات، الاتفاق على أهمية أن نحضر جميعًا الندوة الخاصة بكل من أعضاء الوفد كي لا تبدو القاعة خالية في ندوة صديق.

أشياء كهذه هي ما نتذكر مع الكلام عن الذين عرفناهم في السفر.

وكان لدي تصور مسبق أن كتابة عمر طاهر -ذات الجماهيرية والرواج- كتابة ارتبط عالمها ونجاحها بعلاقة القارئ المصري مع تاريخه وإرثه الثقافي الشخصي، ولكن وجدت تصوري غير صحيح عندما رأيت أن له شعبية بين القراء في تونس، وأسعدني هذا كثيرًا.

هذه الفكرة ستتأكد بعد سنوات حينما نلتقي مصادفة في معرض الشارقة الدولي للكتاب، ويحدث خلاف بينه وبين المنظمين يضطره لإلغاء حفل توقيعه في المكان المخصص لذلك، ويقف في ركن فيتزاحم حوله كثير من القراء جاءوا بنسخ كتبه لتوقيعها.

وأنا أحب كتابة عمر، خصوصًا في المراحل الحديثة نسبيًّا.. أفكر الآن في أننا بلغنا من العمر ما يسمح بأن يعبّر مصطلح “المراحل الحديثة” عن عدد معقول من السنوات، هكذا أجدني أحببت له عددًا من الكتب، آخرها “من علم عبد الناصر شرب السجائر؟”، “كحل وحبهان”، وكتابيه الأقرب إلى قلبي وذائقتي “إذاعة الأغاني” و”صنايعية مصر”، الأول لما فيه من مساحة سرد ذاتي لا يخلو من شعرية وشجن محبب، والثاني لسمةٍ أساسية في أغلب كتابته، وهي قيمة معلوماتية لا تتوافر لمستخدمي “ويكيبيديا”، فضلًا عن عشرات المقالات التي تحقق بامتياز فكرة أن الكتابة للصحافة في بعض أشكالها، جنسٌ أدبي ونوع لامع من أنواع السرد.

محظوظ عمر، هكذا أفكر حين أقرأ له.. استطاع أن يحافظ على فطرة نظرته إلى الأحوال من هجمات العدمية واللا أمل وتساؤلات الأيام المرهقة، تلك الهجمات التي حققت انتصارات كبيرة مؤخرًا.. أشعر دائمًا أنه لا يهتم بالنظريات الكبرى عما أصاب المصريين وتلقيهم للأشياء مصدقًا نفسه، يضع جانبًا التصورات ذات القوالب عن الدور الذي على الكتابة أن تتخذه لإنقاذ الموقف أو لعدم إنقاذه، أو هو يكتب عن نفسه وعما يحبه، فيكتب لذلك عن كثيرين يشبههم. محظوظون نحن أيضًا أن بيننا من لا يزال واقفًا عند الحافة السليمة بين الوعي بما يحمل من مشكلات والإحساس بما يحمل من لطف.

هو يشير لنا إلى كل ما هو جميل اقتربنا من نسيانه وسط العصف، يذكرنا بما أحببنا وأصابته الأتربة أو عكرته النظريات، وتجد أنك ما زلت تصلح للاستمتاع بالتمشية على النيل، أو الدردشة مع وجه صبوح، أن الأغاني التي نشأنا حولها لم تنته صلاحيتها وإن انحرف صناعها، مشاهدنا الجميلة البسيطة التي تصر السنوات الصعبة على تعقيد أمورها.

تلك السعادة العادية، أو كلاسيكيات الانبساط، لا مبالغة لو قلت إن عمر هو أحد حراسها القليلين.

الكاتب الصحفي هشام أصلان


اقرأ أيضًا:

مَن علَّم عمر طاهر حب “الدعبسة”؟

عمر طاهر.. رمز شبابي للثقافة والمعرفة

موقف مع عمر

 

 

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى