نحن أبناء الصعيد، مصادرنا إلى عالم الثقافة قد تكون منعدمة، نادرًا ما تجد مكتبة، أو مسرحًا، أو سينما، أو تعرف كاتبًا وتحضر له ندوة، وأنا من المنيا “شيطنتني” الكتابة بدري بدري، ورهبنتني الثقافة في ديرها، وأصبحت أبحث عن أي فرصة لأكتب وأنا في الجامعة، وكل الفرص بالتأكيد في القاهرة، وطريق الصعيدي منا للقاهرة هو القطار “أسرع وأرخص وأضمن”، كما يقول الناس عندنا في الصعيد.
أربع ساعات من الزحام والهزهزة والخناقات تحملك بالقطار إلى العاصمة، وأنا بالتأكيد واقف بين عربات القطار، لأني وقتها كنت أزحف للقاهرة بناءً على مكالمة هاتفية عاجلة من جريدة أكتب لصالحها أو برنامج تليفزيوني أشارك في إعداده، لأحضر غدًا لأمر ما عاجل، ولم أكن حينها أملك رفاهية تنسيق مواعيدي والحجز مسبقًا في القطار لأجلس على مقعد زي البني أدمين، فقد كنت في عرض فرصة، وكمان يمكن أعرف أزوغ من الكمسري وأوفّر الأجرة، وكانت الأجرة وقتها بالغرامة في المكيّف حاجة وعشرين جنيهًا، مبلغ يشتري بيتًا قبل ثورة يناير بسنة أو اثنتين.. أيام!
وبجوار أجرة القطار كنت أجنب جنيهًا أو اثنين فكة ثمن جريدة أو اثنتين لرفقتي في السفر، أبحث في أوراقها عن اثنين، أعرفهم جيدًا، قعدتهم حلوة، هما جلال عامر وعمر طاهر ليسافرا معي.
وعمر طاهر يأخذني في ضحك جاد، وجدية ضاحكة، ورقة تنتهي في آخر فقرته بشجن، أو شجن يحمل في نهايته بنبوناية ضاحكة ماكرة مكر الصعايدة أفذاذ العاطفة الذكاء!
أقرأ مقال عمر طاهر فأبتسم بين هزهزات فواصل عربات القطار فتتلخبط الأسطر في عيني فأعيدها من الأول وأضحك من الأول، وهواء الباب المفتوح يداعب ورقات الجريدة كالطائر المتوتر في وجه الواقفين بجواري، فيبعدوها عن وجوههم بضيق، وقطارنا لا يعبأ بالفيديو كليب هذا، فقط يحازي الغيطان والترعة والجبل في طريقه المستقيم إلى القاهرة وسط شجار الباعة الجائلين والضحك والسرحان وحكمة صديقي في الرحلة على الورق “عمر طاهر”.
مرت سنوات قليلة، كتبت خلالها بعض المقالات وعرفني بعض الناس ككاتب مقال ساخر، لكني كنت أبحث عن تجربة كتابة كتاب لا أعرف ما هو، في هذه الأثناء دشن عمر طاهر مسابقة على صفحته بفيس بوك حكايتها أن أكثر ثلاثة كومنتات هتاخد لايكات هيعزمهم على قهوة وهيهديهم كتابه “إذاعة الأغاني”، فكتبت كومنت عبارة عن نقطة (.) بس لا أكثر ولا أقل، وجمعت أكتر عدد من اللايكات والهههات واللافات، فدخل عمر طاهر ووضع ردًا على نقطتي في التعليق قائلًا: “عارف إنت بالذات لو كسبت مش هعزمك على النقطة اللي نقطّها لنا دي” ولكني كسبت في الآخر، ورحت قابلته مع بعض أصدقائه وبعض الفائزين في المسابقة، وهناك وجدت إنسانًا لا يقل جمالًا عن كتابته، فتشجعت، وسألته:
– لو عاوز أعمل كتاب وجوايا أكتر من فكرة، قرابة 3 أفكار، ومش عارف أكتب أنهي فكرة فيهم، أعمل إيه؟
فأجابني كمن يعلم ألم هذه الحيرة:
– سيب الأفكار دي تتخانق جواك واقف اتفرج، والفكرة اللي هتكسب هي اللي هتجيبك تكتبها في الآخر.
وأخذت بنصيحة عمر طاهر وحينها انتصرت فكرة على الأفكار بداخلي وكان كتابي الأول الساخر “استحمار كوكب الفيسبوك”.
كل سنة وأنت طيب زي ما إنت يا أستاذ عُمر، سأتذكر دائمًا كرم ضيافتك ورقتك وذكاءك وما قلته لي، وأعدك أن أنقل هذه النصيحة الغالية على لسانك لكل من يحتار حيرتي ويسألني.
اقرأ أيضًا:
مَن علَّم عمر طاهر حب “الدعبسة”؟
عمر طاهر.. رمز شبابي للثقافة والمعرفة