(١)
لسبب ما غامض، سواء عرفت صاحبنا أو لم تعرفه، فإنك واقع في غرامه لا محاله عاجلًا أم آجلًا.. إن شيئًا ما يدفعك تلقائيًّا لحبه بمجرد الانغماس بين سطوره: الضحك بسخرية، الذهول، الرحلة، الخفة التي لا تحتمل، العجب من كثرة السهل الممتنع في اللفظ والمعنى، السرد المنساب، قشعريرة شجن من فرط الحنين الذي يثير العواطف بشدة ويبكيك على الماضي ويشعرك بالرضا والانتماء والرغبة في استمرار العيش وخوض تجارب حياتية جديدة في آن واحد، الشعور الدائم أنك بطل من أبطال صفحاته.. ربما.
(٢)
جرت عادتي أول عام في الكلية أن أخرج مبكرًا حتى أصل قبل موعد المحاضرة الأولى بساعة على الأقل، ولا أقترب من الكلية إلا قبل الموعد بربع ساعة تمكنني من ركوب تاكسي من مكاني إلى الكلية.. المكان الذي أقضي به الوقت هو “بورصة المحطة”، مقهى بلدي رديء إلى حد الأصالة.. كل شيء عليه عتيق، هنا يطيب الهمس، وتحلو النجوى، وتنهمر الاعترافات كقطرات المطر.. هنا يسود الخيال.
على باب المقهى كل يوم تجد الأستاذ نصحي ببذلته الزرقاء الباهتة وشاربه العريض وذقن كلاسيكية ناعمة تفوح منها رائحة “كولونيا ٥٥٥” وأمامه كوب القرفة بالزنجبيل الذي لا ينتهي أبدًا، بجواره رجل مجذوب يمسك جرائد المقهى المخصصة للزبائن ولا يسمح لأحد بقراءة الجرنال قبل أن يغدق عليه بسيجارة..
في يوم من الأيام رفضت أن أقرأ مقابل سيجارة وأنا لا أقرأ هذه الجرائد كلها أصلًا، وهممت إلى كشك الجرائد أشترى نسخة الأسبوع من “الأهرام ويكلي”، حينها لمحت كتابًا مغلفًا بالبلاستيك الشفاف لونه أحمر ميزت عليه صورة الست ومنير وعدوية وشادية وفايزة أحمد وعبد الحليم: “إذاعة الأغاني.. عمر طاهر.. سيرة شخصية للغناء”.
قررت إلغاء الذهاب إلى الكلية هذا اليوم، بكل تأكيد مجالسة كتاب في المقهى ألطف بكثير من مجالسة دكتور جامعي في محاضرة تمتد ساعتين يحكى فيها لطلابه مغامراته في بعثات دراسته بدول أجنبية يتحزلق وهو ينطق أسماءها بالإنجليزية.. المرارة أضيق والعمر أقصر من ذلك يا دكتور!
انتهيت من المعزوفة العذبة في ساعتين بتدقيق، ونصف ساعة في حفظ ومراجعة صفحات معينة.. في الخلفية صوت القرآن لا يتوقف أبدًا، وكلما ساد الصمت يصرخ عم إبراهيم في الجالسين: “ده مصطفى إسماعيل قارئ الملوك.. نضفوا ودانكم يا بهايم ده نهاوند على أبوه!”، في حين أترك الحساب له معلنًا لنفسي أنني ذاهب للمشي طويلًا حتى أنتهي من سماع قائمة أغاني الكتاب كلها، وكانت الأولى التي أصبحت معشوقتي الأزلية حاليًّا “فاكراك.. نجاة علي.. كلمات إمام الصفطاوي وتلحين أحمد صدقي”.
(٣)
صوت موسيقى سحري في مقدمة الغنوة ميّزت مصدره من آلات التخت، العود والقانون والناي والرق الخفيف، والمقام السائد سي بيمول صغير. تدخل بعد ذلك نجاة بالغناء مع تغيير صغير في المقام:
فاكراك ومش هانساك
مهما الزمان قساك ولا نسيت حبي
وإن رحت مرة تزور عش الهوى المهجور
سلم على قلبي
(٤)
ذات صباح، حكى لنا صاحب المقهى تاريخ المكان من الخمسينيات حتى الآن، نستمع إليه في صمت تام.
يروي الرجل أن السادات في فترة هروبه قبل أن يكون رئيسًا لجأ إلى هذا المكان فترة لا بأس بها، وكان يحب تدخين الحشيش في المكان نفسه، ويترحّم الرجل على السادات مشيرًا إلى صورته، بعضنا يتأمل كذبه في الحكي، وأنا أتأمل كلامه المنسوج بالخيال.
هناك شعرة بين الكذب والخيال، الرجل غارق في الحكي عن أسطورته، وينهي كلامه المعتاد بأنشودة لعن الظروف والحكام والزمن مشيرًا إلى أن أيامنا صعبة وأنه في زمنه تزوج بألف جنيه وطلق بألف جنيه، متحديًا كل الجالسين أن يجدوا هذا الوضع حاليًّا بهذا الرخص.. بينما ننصرف، يدعو الله أن يقرِّب أجله لأنه يئس من أيام الموضة، هكذا يسمي أيامنا ويقول بعدها آمين.
(٥)
أقصى ما أتذكره من تفاصيل يوم قراءة “شكلها باظت” أنها مضحكة وساخرة إلى حد البكاء، فاسمع مني واتعظ. بلا مبرر واضح قررت أن أركب القطار للمرة الثالثة في حياتي مثلًا. وسيلة مواصلات تليق بعنوان كتاب أضعه في حقيبتي ويسمح لي بحرق الوقت والتسلية بالبطء اللازم لإنهاء الكتاب وألتأكد من أن شكلها باظت.
تحرك القطار قبل موعده بربع ساعة من الرصيف مما أدى إلى حرمان قرابة نصف ركاب القطار من الركوب.. الحمد لله .. تسلم دماغك يا أسطى.. نقرأ بروقان.. هوب هوب هوب.. توقف القطار عند محطة أقاليم أرياف وليست مراكز كما هو مفترض، سادت الدهشة وهبط الكل على رصيف القطار في عجب تام من أن الوقوف بسبب عطل.. كانت المفاجأة أننا رأينا سائق القطار يهبط من كابينة القيادة ممسكًا بطاقة تموينية ومشى حتى وصل إلى بائع الخبز الذي أقنع من أجله كل إدارة المحطة أن يسير مبكرًا ربع ساعة من أجل العيش الصابح المفرود.. قبل أن أكمل الكتاب تأكدت أنها باظت بالفعل.. باظت خالص!
(٦)
واعلم -أطال الله عمرك- أن صاحبنا ثعبان كتابة يغيّر لونه وقتما وأينما شاء، للدرجة التي لا يترك لك مساحة ألا تفضله أو تحبه، مقالات رأي ساخرة وكتب وقصص قصيرة ودواوين شعر ودراسات وتاريخ وتأريخ وبرامج تليفزيونية وإذاعية وندوات ومسلسلات وأفلام.. في عز ما كان الوضع السياسي ملتهبًا كان صاحبنا يضع لك الساسة والسياسة في كبسولة ساخرة تمامًا.. أراه طول عمري في الآراء يهرب من المكان المصنوع في الجحيم لهؤلاء الذين يقفون على الحياد في المعضلات الأخلاقية أو أي أزمة عمومًا؛ إذ تجده كالزمار، وكما لا يستطيع الزمار أن يخفي ذقنه، فإن الكاتب، خصوصًا الكاتب الصحفي لا يستطيع أن يقف طويلًا على الحياد مما يجرى حوله أو أن يخفي عن الناس حقيقة آرائه.
(٧)
كيف تعرف أنك تقرأ لعمر طاهر؟
بعدما تنتهي تجد نفسك تتنفس الصعداء وأنت تقول ملخصًا شعورك كله: (الله! الله! الله!)
إلى عمر طاهر:
محبة عظيمة حتى نهاية الحساب والسحاب.
اقرأ أيضًا:
مَن علَّم عمر طاهر حب “الدعبسة”؟
عمر طاهر.. رمز شبابي للثقافة والمعرفة