المنطقة الحرة

فنان الجيل

تدقيق لغوي: جهاد السنيطي

لا، السطور القادمة ليست عن تامر حسني، هذا الملف كله بالأساس احتفاء بعمر طاهر، فما دخل تامر بالأمر؟

وعمر- في ظني وبعض الظن حلال كما تعلم- بالنسبة لجيلي (ذلك المولود في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينات) هو الفنان والأَلْفَة لأسباب كثيرة، منها (فاضي نعد؟) الموهبة الأصيلة كطين سوهاج، والغنَى المعرفي والتنوع الثقافي، وزملكاويته المفرطة، وافتنانه بطواجن البرنس، وحمقته لما يراه حقًا ولو على رقبته، وشهامته الزاعقة التي تستشعرها في كتابته وسلوكه الشخصي مع محبيه دون جهد، وهي شهامة أظنها خليطًا من عِرقين فريدين؛ الصعيد والفن. وإخلاصه الحقيقي للكتابة، وهو الإخلاص الذي يجلب لصاحبه عادة الدخول في معارك ليس أصعبها تلك اللي يُرفع عليه فيها “شومة” و”نبوت”وإنما تلك التي تجعله يدخل في أحاديث عسيرة مع النفس بخصوص ما إذا كان عليه أن يستمر في ذلك الطريق “الواعر” أم عليه أن يستريح؟ ولعلك عرفت إجابة السؤال من استمرار وجود عمر في الطرق الوعرة دائما. (أيوه اللي تلاقيها دي على الشمال كده)!

متى قرأت لعمر أول مرة؟

الذاكرة مثقوبة بحكم السن والحياة اللذيذة، قد لا أتذكر بدقة السنة، لكني أستعيد الأجواء، لا بد أن ذلك كان في نهايات التسعينيات وأنا استقل القطار من شربين مدينتي الصغيرة الغافية على نهر النيل تغسل شعرها لسبب ما، متجهًا إلى المنصورة من أجل الذهاب إلى الجامعة، قبل أن أزوغ وأقرر الانفراد بنفسي على كازينو الجمهورية المطل على النيل (برضه بالعند في إثيوبيا) وأضرب ساندويتشات فول وكباية شاي لأقرأ.

 قرأت اسم عمر لأول مرة إذًا في الدستور (الإصدار الأول) أو الجيل (الجريدة التي ظهرت في أعقاب غلق الدستور عام 1998 واستهلمت روحها وناسها قبل أن تغلق بدورها لاحقًا)، لكني أذكر جيدًا أني “اتكيّفت” من هذا الجدع عندما قرأت كتابه المدهش (اللي مش شبه حاجة اتكتبت قبل كده) شكلها باظت عام 2005، وحينها كنت قد هاجرت إلى القاهرة لاهثًا وراء أحلامي الصحفية الكبرى ومن يوميها وأنا بلهث لغاية دلوقتي!

وقتها كان “شلكها باظت”، قد تحوَّل إلى ظاهرة في عالم الكتب، حتى إني ما زلت أعتبر-إن كان من حقي الاعتبار بعد إذنك يعني- أن كتابي عمارة يعقوبيان لد.علاء الأسواني (2002) وشكلها باظت لعمر طاهر (2005) شكَّلا نقطة تحول كبرى في صناعة النشر في مصر، قبلهم في سنوات التسعينيات كانت الكتب (باستثناء روايات مصرية للجيب وبعض الكتب المثيرة للجدل السياسي أو الديني) توزع بعض مئات أو عشرات من النسخ، وبعدهما تغيرت قواعد النشر، وظهر مصطلح الأكثر مبيعًا بما (له ما له، وعليه وما عليه)، بل واستمرت سنوات ظاهرة الكتب الساخرة تقليدًا أو نسخًا -بائسًا في أحيان كثيرة- لكتابات عمر طاهر، فكان أن تفتحت كتب خرج منها ياسمين وريحان، وأخرى انفجرت كبالوعات الصرف الصحي في حي الأسمرات (قبل تطويره طبعًا استر عليّا).

ميزة عمر الكبرى أنه تجريبي لكنه يفعل ذلك على الأرض وليس وهو معلّق في السماء، فهو لا يحب أن يسير على السطور الموضوعة، تجده يشت فنًا بين الحين والآخر، بل ربما للدقة فإن الأصل عنده التمرد على السائد، لكن دون أن يعني ذلك أن يسوق الهبل على الشيطنة. هو متمرد ومجدد في الكتابة وبلا شك، وأي مؤرّخ منصف لحركة الأدب والكتابة في السنوات الخمس والعشرين الأخيرة، لا بدّ أن يضع عمر في مقدمة مجدّدي فن الكتابة الأدبية والصحفية في مصر، هل تعتقد أن هذه مجاملة من رجل – اللي هو أنا- لواحد صاحبه -اللي هو عمر-؟ والله براحتك. لكن هذا رأيي الذي يحتمل الصواب ولا يحتمل الخطأ (أيوه زي أي مسؤول في البلد دي.. اعترض بقى).

وبما أننا أصحاب -زي ما قلت في السطر السابق- فإني أتذكر جيدًا متى التقيته لأول مرة.

كان ذلك في كافيه كوستا في شارع جامعة الدول العربية في النصف الأول من عام 2005. كنت حينها أعمل محررًا في موقع شبابي صاعد واعد (ولهذه الأسباب بالذات أُغلِقت أبوابه) اسمه بص وطل، وطلبت من عمر إجراء حوار معه على خلفية نجاح كتاب شكلها باظت الفائق، وافق بجدعنة معتادة ودون سابق معرفة، في وقت كان كثيرون يضحكون عندما أخبرهم باسم الموقع قائلين في استفسار لا يخلو من تهكم (بص وإيه؟)، وحينما كنا نُجري الحوار تلقيت اتصالًا من الأستاذ إبراهيم عيسى (وقد كنت حينها أتعاون من الخارج مع جريدة الدستور في إصدارها الثاني) ليكلفني بكتابة موضوع ما أو يعاتبي على كارثة ما، وعندما أخبرته -بلا أي سبب منطقي- أني جالس برفقة عمر، تهللت أساريره وحادثه بتلقائيته المعهودة ليخبره أنه يبحث عنه بدأب منذ أسابيع، وقد فقد رقم هاتفه، وأنه يطلب منه كتابة صفحة ساخرة كاملة في الدستور، وحينما أغلق عمر الاتصال نظر لي معاتبًا بأن لساني الفالت ورَّطه في كتابة 2000 كلمة كل أسبوع مقابل 500 جنيه في الشهر على أكثر تقدير!

هل أقول إني كنت سببًا في أن يعود عمر ليكتب في الدستور في إصدارها الثاني؟ لأ طبعا، أزعل منك، لقد كان ذلك مخططًا ومرتبًا من قبل، وكنت فقط عامل التحويلة في السنترال، أنا أخبرك فحسب أني كنت شاهدًا على هذه اللحظة المهمة لأن مسيرة عمر في الكتابة في الدستور ثم التحرير (ولاحقًا في الأهرام) تشكل ملمحًا أساسيًا في تناوله للشأن العام في السنوات ما بين (2005-2016)، وهي تجربة تصلح لقراءة شائقة لتاريخ مصر السياسي والاجتماعي ومن ثم تحديد مساحات حرية النقد والالتفاف حول الخطوط الحمراء وكيفية مناوشة “المفترسين” الجالسين في مناصب نافذة سياسية واجتماعية في هذه الفترة، والخروج من كل هذا الهم والسواد بابتسامة وضحكة وأفكار تدور في الرأس طويلًا.

ولعل غرضي الحقيقي من هذه القصة بالذات أن أخبرك بأن عمر طاهر كان أول من عزمني على كابتشينو كوستا اللذيذ. ومن يومها صرتُ مدمنًا له في “كوب من الورق”، كما شاهدت عمر يطلبه بخبرة شرّيب متمكن!

وإذا كنت تستكتر على عمر لقب فنان الجيل، فتعالى نحسبها بالورقة والقلم، فأبو رقية، من أوائل من ترجموا روايات الكاتب البرازيلي فائق الشهرة باولو كويلو للعربية، (على نهر بيدار جلست وبكيت) سنة 2002،  بل لعله كان أول صحفي مصري (وربما عربي) يسافر البرازيل ويجري حوارًا مع ذلك الكاتب العابر للقارات واللغات (إذًا هو مترجم)، ثم إنه كتب ويكتب الشعر اللي بيتباع في كتب والشعر اللي بيتغني في أغاني (إذًا هو شاعر)، ثم إنه كما لا بدّ أنك تعرف صاحب طريقة في الكتابة الاجتماعية والسياسية الساخرة وله في ذلك شيء وشويات، وكتب طٌبع منها عشرات الطبعات الأصلية والمزورة (إذًا هو كاتب “بلاش موضوع ساخر دي عشان بتزعله بعد ما ابتذلت”)، وقد حشد خبراته الصحفية الميدانية الموزَّعة في تجارب ملهمة في (نص الدنيا) و(الدستور) وقدراته على البحث وتقليب التاريخ، ليقدم كتابًا فريدًا هو مزيح من التاريخ الاجتماعي والتحقيق الصحفي المعمق (صنايعية مصر) إذًا هو (صحفي)، كما أنه كتب أكثر من فيلم كوميدي من اللي بيضحكوا بجد مش أفلام توصف بالكوميديا، بينما الرخامة والسماجة فيها تتوزن بالكيلو، بل وإن فيلم مثل (طير إنت)، أصبح من أيقونات كوميديا السينما المصرية في آخر عشرين سنة على أقل تقدير، إذًا هو (كاتب سيناريو) دعك من أنه مذيع راديو لا يظهر من أجل استقبال رسائل الـ SMS وليقول (نسمع الأغنية الجاية ونطلع فاصل)، وإنما ليقدم محتوى إذاعيًا حقيقيًا، ثم إنه له في التقديم التليفزيوني علامة بارزة تعرف بـ(وصفوا لي الصبر) الذي فيه شيء من “وصفات الجدات”، إذ تزاد أصالته وتفرده بمرور الوقت على عرضه ومشاهدته. آه.. نسيت.. هو روائي أيضًا، (كحل وحبهان) نموذجًا.

إذًا نحن أمام شاعر وكاتب وباحث وصحفي وروائي وسيناريست ومترجم ومقدم برامج إذاعية وتليفزيونية.. نعم.. أيوه.. إذا لم يكن الشخص الواحد الذي يجمع كل ما سبق فنانًا.. وفنان الجيل كمان.. فماذا عساه أن يكون عمر طاهر إذًا؟

سامعك يا اللي بتقول رائد فضاء.

الصحفي وكاتب السيناريو محمد هشام عبيه


اقرأ أيضًا:

الفضائي

عمر طاهر مؤرخ جيل الثمانينيات!

كتابة صُنِعتْ بحب

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى