المنطقة الحرة

أن تكتب عن عمر طاهر..

تدقيق لغوي: جهاد السنيطي

العام 1999.. كان (المحمول) اختراعًا جديدًا لحس دماغ الناس.. تصنيفنًا لمن يمسكه هو تصنيف الغني والفقير، القوي والضعيف، صاحب النفوذ وصاحب الستر، لكن في الصفحة الأولى لجريدة الجيل التي صدرت بعد إغلاق الدستور.. في الصفحة الأولى يكتب عمر طاهر عن سعر المحمول وماذا يمكن أن يفعل بنا، ويقدم لوحة فنية يقارن فيها السعر بمقدم شقة عمنا حمدي عبد الرحيم، ويقارنه بكام مرة غسيل كلى، وكام علبة سجائر، وكام سفرية إلى الخارج للفسحة، وكام مصاريف مدارس، وغيرها وغيرها من تفاصيل حياتنا اليومية.

كنت في السنة الثالثة جامعة أدرس الصحافة، وليس لديّ من المال ما يسمح لي بشراء المحمول الذي يعادل كسوة الصيف والشتاء من جولدن مان هاوس عشر سنوات قادمة، لكنه يسمح بشراء الجريدة الأسبوعية التي كانت نافذة مختلفة يكتب فيها بلال فضل وعمر طاهر وحمدي عبد الرحيم وأكرم القصاص الذين أسسوا بهذه التجربة العظيمة التي لم يلق عليها الضوء جيدًا صحافة من نوع آخر وكتابة شعبية راقية إن جاز التعبير مستفيدين من سنوات قضوها في مدرسة الدستور (الأولى) مع إبراهيم عيسى..

لكن اسم عمر طاهر كان مألوفًا أكثر في مجلة نص الدنيا، تجربة سناء البيسي العظيمة التي قدَّمت للصحافة رئة جديدة في التسعينيات. عمر في نص الدنيا كان اللاعب رقم 10.. فاكهة المجلة.. من الصعب توقع ما سيكتب عنه في العدد القادم.. يمكنه أن يكتب عن البورصة: “اديني بورصة تانية”.. ومن الممكن أن يكتب عن رأيه في حفل عمرو دياب الأخير في الاستاد.. وفي العدد التذكاري العظيم الذي كانت تصدره المجلة سنويًّا في عيد ميلادها تجده مصطحبًا علاء ولي الدين من أجل إجراء حوار مع أحمد الهوان الذي عرفناه بجمعة الشوان. كان عمر طاهر مثلًا أعلى لكثير من أبناء جيلي، وأنا منهم، وكنا نظنّه وبلال فضل من الآلهة والأساطير، ونفترض أنه وعمر كل منهما يتعدى الأربعين فإذا بهما في بدايات العشرينات!

سعيت للتعرف إلى عمر في هذا العام نفسه، حين أخبرني صديقي ياسر حماية أنه يتدرب في نص الدنيا، “إنت فين يا ياسر؟” “أنا ف نص الدنيا دلوقت”.. “عمر طاهر عندك؟” “آه جنبي أهه”.. “طب اديهولي”.

مكالمة لم تتعدَ ثلاث دقائق على التليفون الأرضي فتحت أبواب صداقة قوية مستمرة إلى يومنا هذا. تواضع من لا يعرف قدره، أو من يستغرب من إطراء يخجله حتى الآن، وبساطة في الحديث عما يفعل وكأنه “نفحة” و”جت كده” و”الحمد لله والله إنه عجبك”.

مكالمة اتفقنا بعدها على لقاء ليس معي وحدي بل مع “شلتنا” آنذاك في مقهى الندوة الثقافية في باب اللوق التي كنت أسمع عنها ولم أذهب إليها بعد، وفي يوم اللقاء أهداني عمر ديوانه الأول “مشوار لحد الحيطة” الصادر عن شرقيات بتوقيعه الشهير الذي يصنع فيه من حرف العين وجهًا مبتسمًا، وخطه المرسوم بعناية، ومحبة تستشعرها من كل ما ينطق به في كلامه.

وفي اليوم نفسه حضر بلال فضل وسهرنا جميعًا نحتسي الينسون والسحلب والعناب ونستغرب أنهما لا يدخّنان أو يشربان الشيشة كديدن الفنانين وكده!!

كان من أجمل أيام عمري، من أكثر الليالي التي ضحكت فيها في حياتي، من الأيام التي جعلتني أحب هذا العالم، حكايات عن كل شيء، قراءات، شعر، غناء، ذكريات، نصب، موضوعات صحافة، حوارات مع شخصيات عظيمة اتضح أنها ليست كذلك بالمرة، وكواليس، وضحك من القلب..

في هذا اليوم ألقى الله في قلبي محبّة عمر طاهر الذي أصبح يقابلنا كثيرًا، ومنذ هذا اليوم صرنا أصدقاء.. ويهديني عمر شريط فيديو عليه حلقات (هادي وفادي) الكوميدية التي كتبها للفضائية المصرية التي ينعزل فيها أحد أبطاله مكتئبًا وفي حالة رثاء في الذكرى السنوية لاحتساب هدف حسن شحاتة الصحيح في الأهلي أوفسايد!

بيني وبين عمر ذكريات يصعب حصرها، ومواقف تاريخية، بل وأفضال أيضًا..

عمر يرشِّحك للعمل دائمًا لأنك شاطر وليس لأنك صاحبه، ومن الممكن أن يقول بمنتهى السلام النفسي “فلان يقدر يعمل ده أحسن”.. أو يدعمك حين يعرف أنك تحتاج إلى هذه الفرصة التي لا يتركها تذهب إلا بعد أن يضمن أنها وصلت إلى من يستحقها ممن يعرفهم..

يرشّحنا عمر لطارق نور “أنا وأشرف توفيق” لكتابة نشرة أخبار الفراخ في بدايات القاهرة والناس وكانت من أعلى المستحقات التي حصلنا عليها آنذاك..

حتى في حالات الزعل، حتى في حالات المقاطعة أحيانًا التي لم تجعله مثلًا يدعوني لفرحه “فرصة برضه الواحد يقطَّمه شوية” كان عمر حاضرًا حضورًا مختلفًا.. متجليًا بعبارات تاريخية لا يمكن نسيانها..

وفي حالات التحدي كان عمر يدخل المعارك هادئًا..

في إحدى ورش الكتابة لمسلسل سيت كوم ذهب عمر للاجتماع، وسأل عمرو سمير عاطف عن سعر الحلقة وكيف يقسم؟

عمرو سمير عاطف من أجمل الناس الذين يمكن أن تتعامل معها في ورش الكتابة، ووقتها قال عمرو كذا للكاتب، وكذا للهيد رايتر لأنه يُجري تقفيل الحلقة لأنها مهما كانت لا تصل إلى الدرجة التي يرغب فيها ولذلك الفلوس متقسمة كده..

سأله عمر وقتها: ولو جت مش محتاجة حاجة خالص؟

ليرد عمرو: بياخد الفلوس كلها.. لأن الهيد رايتر مابيحطش فيها خط وأنا في الآخر مش سمسار هاخد نسبة.

ابتسم عمر وذهب.. مر يومان.. أرسل الحلقة.. قرأها عمرو.. ابتسم..

ولم يضع فيها خطًّا.. وكان حق الحلقة بالكامل من نصيب عمر الذي لم يكرر التجربة!

يختصر بعضهم عمر طاهر في كتاباته الساخرة الناجحة التي أسست لخط جديد في الكتابة صنع منه كُثر برامج وكتبًا دون الإشارة إلى كونه الملهم الأول لهم، وصاحب نقطة النور التي نظر الجميع إليها واتجهوا ناحيتها، لكن تجربة عمر أكبر وأعمق.

عمر الصديق الذي أثر في كُثر يصغرونه سنًّا وصادقهم لتكون سهراته معهم، يُسمعهم قصائده الجديدة قبل نشرها، ويحكي لهم عن أحلامه دون أن يصادر على أحلامهم التي كانت في طور التكوين، ويصطحبهم في سيارته إلى عوالم وسط البلد التي لا تشبهه لكنه يتعامل معها في سلاسة ويحب تفاصيلها ويراها عالمًا خصبًا لقصيدة، أو تجربة، أو موضوع صحفي، أو مقابلة أصدقاء حقيقيين يجد نفسه معهم بعيدًا عن المدّعين وأجواء فناني وسط البلد بالاستريوتايب الشهير الذي لا يختلف كثيرًا عن الحقيقة.

فتح عمر بيته ومكتبته لنا.. أطلعنا على أسراره وقصص حبّه وأطلعناه على ما ظننا أنها كذلك.. فتح لنا قلبه.. فتح لنا نوافذ على حياة أخرى لم أكن شخصيًّا أعلم عنها كثيرًا.. سهرات العيد للصباح الباكر في فيلم ميدنايت وعشوة في حبايب السيدة وصلاة الفجر وتوصيلة مجانية بسيارته.. جلس معنا على السطوح في بيت عُمر مصطفى ملتقى الأحباب وفي هذه الأثناء قررت أن يكون ابني الأول اسمه عمر.. وقد كان.

عمر الصحفي.. الرجل الذي سافر وأحب السفر والتقى باولو كويللو وأجرى معه حوارًا رائعًا وترجم له روايته (بالقرب من نهر بيدرا جلست وبكيت).. كان عمر -ولا يزال- غير مهتم بكل ما يجري حوله، وكل ما يتصارع عليه الآخرون بقدر اهتمامه بالطريقة التي سيتناول بها الأشياء.

معالجته للأمور في الكتابة.. ربما كانت هذه فلسفة عمر في حياته التي يتعامل فيها مع تفاصيلها بوصفها مادة كتابة جميلة سيكتبها كما لم يكتبها ولن يكتبها أحد.. للدرجة التي جعلته يضع عنوانًا غريبًا لموضوع كتبه في المجلة وهو “شقيقتي في أحضان صديقي” ليكتب عن ليلة زواج شقيقته من أحد أصدقائه بمشاعر الفرح والارتباك لأخ تمر حياته كفوتومونتاج وهو ينظر إلى شقيقته التي ستنتقل إلى بيت آخر..

عمر “الكتّيب”.. الكتابة الرائقة الراقية التي جعلت كُثر يُقبلون على شراء كتبه التي وضع بذرتها الأولى في تجربة جريدة (ضحك للدنيا) التي كان أحد أعمدتها، أو في تجربة “رصف مصر” في الدستور، صفحته المختلفة التي جاور فيها جلال عامر العظيم فإذا بصداقة رائعة وكتابة تجلي الروح كما يقولون، وحين يفكر عمر طاهر في الكتابة للأطفال يكتب بابًا لذيذًا بعنوان (هابي ميل).. كيف لا وهو الذي ينظر إلى حيث لا ينظر الآخرون..

حتى في اشتباكه السياسي، لم يكن عمر ” يتشاجر” مثل كتاب كثيرين رأوا أن الكتابة في السياسة خناقة كبيرة، وأن الكاتب يصلح أن يكون مناضلًا، ربما لهذا من الصعب أن تجد اختلافًا حول عمر طاهر، إذ لم يضع نفسه في مكان أو موقف ملتبس أو لا يشبهه، وتعامل بذكاء شديد وهو يمشي على حبل مشدود سقط منه كثيرون، لكنه عبره ببساطة وهو يضع يده في جيبه ويلقي قصيدة!

عمر الشاعر الذي يكتب قصائد مختلفة، ويلقيها أمام عمّنا أحمد فؤاد نجم الذي كان -رحمه الله- يشتم من يحبه ويعجبه شعره، وكم من شتائم تلقاها عمر أمام أعيننا لا سيّما وهو يقول

“جرح البنت أداويه بالبنت وإبرة بنج ما تهزمنيش”، وشخصيًّا أرى (الخريطة) أهم قصيدة كتبها عمر، وهي خريطة جيل بأكمله.

عمر البيست سيلر.. صاحب تجربة تأريخ الواقع الاجتماعي والنفسي لجيل الثمانينيات.

الكاتب الذي وضع كلمة “زملكاوي” في البيست سيلر في زمن لم يكن يجهر أحد فيه بزملكاويته!

الكاتب الذي تغيّرت حياته بنفحات صوفية يجلس معها مريدًا في الزاوية التيجانية ليقدم قصص بنات النبي -صلى الله عليه وسلم- بأسلوب سهل ممتنع في كتاب راقٍ يمكنك أن تحكيه لأبنائك وتستفيد منه أنت أيضًا.

عمر السيناريست.. دعك من (سوبر هنيدي) الذي كان تجربة عظيمة بحق، ودعك أيضًا من (يوم مالوش لازمة) الفيلم الذي أعطى قبلة حياة مهمة لتجربة هنيدي في فترة من الفترات، لكن ركز لو سمحت على فيلمه (طير إنت) مع أحمد مكي.. أحد أجمل الأفلام الكوميدية التي يمكن أن تشاهدها حتى مع كون الفكرة الرئيسية مقتبسة.. هذا التمصير المرعب، وهذه الإفيهات والمواقف التي حكاها لنا وحذفتها الرقابة أو حذفها المخرج.. عمر سيناريست مهم وشاطر جدًّا، ولو كانت حركة الإنتاج السينمائي في مصر في مسارها الصحيح لكان لهذا الرجل شأن آخر.

عمر المذيع.. قدم عمر فقرات صحافة مهمة في قناة otv.. واحدة من التجارب التي لم تكتمل لكن عمر أعطى لها مذاقًا مختلفًا، ثم كان لي شرف مصاحبة عمر من الكنترول في تجربته مذيعًا في قناة التحرير، وكانت حلقة عجيبة، لم أطلب فيها مصدرًا من مرشحي الرئاسة آنذاك للدخول في مداخلة مع عمر إلا ورحَّب من الوهلة الأولى قبل أن نختم الحلقة بذكر وابتهالات مع مصطفى عاطف في حلقة تاريخية -إن جاز التعبير- وللأسف لا وجود لها على اليوتيوب..

قدَّم عمر أيضًا برامج إذاعية بنكهة عمر طاهر.. وبطريقته، ولا يزال قادرًا على تقديم مزيد حين تستقيم الأمور.

عمر الإنسان..

ترى ما الذي يمكن أن أقوله عنه.. لا أعرف.. فقط.. شكرًا عمر طاهر.. شكرًا لأنك صديقي.

الكاتب الصحفي محمد فتحي


اقرأ أيضًا:

عمر طاهر.. الكاتب الذى يستطيع أن يلملم العبق في سطور!

عمر طاهر.. صنايعي الكتابة الحقيقي!

عمر طاهر.. اللي بيلقطها وهي طايرة!

 

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى