اهتمامي بأن أقدم التحية لعمر طاهر لا يرتبط بتقديري لموهبة حقيقية فقط، ولكني أراها تحية لكل أبناء جيله أيضًا.
أعرف تمامًا الصعوبات والمتاعب التي عاصروها، سواء وهم يكتشفون عالم الواقع أو عالم الكتابة أو وهم يحاولون تكوين أنفسهم ثقافيًّا ومعرفيًّا، أو وهم يخترقون المجال وينتزعون الفرصة ويصنعون أسماءهم.
لفت نظري عمر بوصفه صحفيًّا متميزًا في البداية، فالذين يمتلكون أسلوبًا في المجال قليل، وأقل منهم أولئك الذين يمتلكون شيئًا يريدون أن يقدموه بهذا الأسلوب، وعمر يمتلك الأمرين.
أحببت -على نحوٍ خاص- مادة معرفية هائلة لديه عن عاداتنا وتقاليدنا وأدوات الحياة وطرائق المعايش وألوان البهجة وخيوط الأحزان، وأسعدني أسلوبه السلس، وبناء مقالاته المتماسك، لا ثرثرة ولا إسهاب، ولا استعراض أو تعقيد.
ليس سهلًا أن تكتب بهذا الأسلوب، وليس هينًا أبدًا أن تصل إلى أجيال، أعرف أن كثيرًا من أبنائها لم يتعوَّدوا أصلًا القراءة، هذا وصول أُثمنه كثيرًا وأراه أمرًا مهمًّا للغاية.
يعمل عمر بأفكار لامعة ومدهشة، استمتعت كثيرًا مثلًا بكتابيه “إذاعة الأغاني”، و”صنايعية مصر”.
ما بين الفكرتين مسافة هائلة، ولكن الكتابين يكشفان عن ذكاء التناول والمعالجة، ووفرة المادة والمعلومة مع رغبة عارمة في اكتشاف الذات والوطن.
الأغنيات في الكتاب الأول ليست مجرد أعمال فنية على قارعة الطريق، ولكنها جزء من الذكرى والذاكرة، وجزء من الحياة نفسها، وطريقة سرد ارتباط كل أغنية بالحياة أقرب ما تكون إلى قصة قصيرة ناضجة، لذلك أظن أن عمر طاهر يمكن أن يحقق شيئًا مختلفًا، بالذات في عالم القصة القصيرة.
وشخصيات الكتاب الثاني تنبض بالحياة والتفاصيل، ونراها حاضرة بكل ما أنجزته، فيحافظ عمر على الذاكرة، ويجعلها في قلب واقعنا.. يلمع الذهب ويبقى ما ينفع الناس وتصبح السيرة أطول من العمر، ويولد نجوم جديرون حقًّا بنجوميتهم في زمن “الفالصو” والمستعار.
في الكتابين جهد ووعي، وفكرة ومادة، وطريقة عرض تصل إلى من تخاطبهم بلا جهد أو مشقة، ثم إن الفن ليس في حشد المادة، وإنما فيما تفعله بها، وكيف تؤثر عن طريقها؟
توقفت ذات مرة عند أشعار كتبها عمر طاهر مقدمةً غنائية لمسلسل “يونس ولد فضة”، وغناها ولحَّنها أحمد سعد.
لم أكن أعرف أنه صاحب الكلمات، ولكن الأغنية ذكّرتني على الفور بأناشيد الموالد، وأصوات المنشدين في مولد سيدي الضمراني أمام بيتنا بالصعيد، بل لقد ظننت أنهم نقلوا أغنية من أحد الموالد!
كيف استحضر عمر هذا النول القديم لينسج عليه إلا من خلال الموهبة؟ وكيف يمكن أن نعرف حدود هذه الموهبة إلا بالنجاح في التحدي الصعب الذي يناسب الحكاية، ويقدم لها ويدخلنا إلى عالمها؟
حتى اليوم لم أقابل عمر طاهر إلا في مناسبة واحدة، وهي توقيع الجزء الأول من رواية إبراهيم عيسى “القتلة الأوائل”، ولكني أحمل تقديرًا كبيرًا لموهبته ولنشاطه.
لا يمكن أن تكون كل أعماله على المستوى نفسه، وقد يراه بعضهم أفضل في هذا المجال أو ذاك، ولكنه بالتأكيد لديه ما يريد أن يقوله، ويجتهد كثيرًا في توصيله، وما زلت أعتقد أن هناك كثيرًا لم يقدمه بعد، وأن لديه من الأفكار اللامعة التي تستحق أن تُقرأ، أو تتحول إلى أشعار أو أفلام.
وهو -من قبل ومن بعد- يمنحني الآن فرصة خاصة لتحيته، ولتحية جيله عن طريقه.
كل من أصرّ على حلمه وحفر طريقًا وأغرى قارئًا بأن يقرأ، يستحق التقدير ويستحق الاهتمام.
الكاتب والناقد الأدبي محمود عبد الشكور
اقرأ أيضًا:
حين وجدت رائحة أمي في كتاب لـ “عمر طاهر”!