عَرفت عُمر طاهر منذ مَا يقرب من عشْرة أَعوام، كصحفي وكاتب ساخر.
وفي الحقيقة تعاملت مع كتاباته في البداية على أنها من ذلك النَوع الذي رَاج بَعد ثَورة يناير ووجد له سوقًا واسعة، وأصبح الجميع يَكتُب فيه، وكُنا كقراء نستمتع بالجَاد منها ونَطلب المَزيد، فقد كُنا في مرحلة مِفصَلية في حياتنا، ونحتاج إلى كُل أشكال النَقد، وكانت السُخرية (الحقيقية) بالطَبع وسيلة رائعة للنقد بكُل أشكاله، بل هي الوسيلة الأكثر عُمقًا وفاعلية وقُدرة على الوصول إلى القلب والعَقل، صحيح كَان هُنَاك بَعض السُخفاء المُستَظرفين، إلا أنهُم كانوا قِلة قليلة، أما انفجار القُدرات الإبداعية الساخرة فقد كانت له الغَلبة والحضور بين الناس.
ورُحت أستمتع بكتاباته مُستقرًا في يقيني أنها أدبٌ ساخر يُحقق المُتعة والتَسلية ويشفي غَليل رغبة النَقد العارمة بداخلي آنذاك، إلا أنني اكتشفت فيما بعد، لا سيما مع كتاب (أثر النبي) أن عُمر طاهر ليس كاتبًا ساخرًا وحَسْب، بل إن لهُ وَجهًا آخر لم أكُن أعرفه، ولا أقصد بالتأكيد وجهه المُتدين ذا المسحة الصُوفية، ولكنه وجه إبداعي جديد، يُظهر أن هذا الرجُل قادر على تَقديم ما تَم تَقديمه مئات المرات بغُلاف إبداعي جديد وشَيق يحمل كُل عناصر الجَذب والتشويق اللازمين للإبحار في قراءته.
فالكتاب يرصُد مواقف في حيوات بعض آل بيت النبي الأكرم، رُبما يعرفها القارئ مُسبقًا، ولكنه قدمها في شَكل قَصصي بديع وفريد وغَير مِسبوق، فأيقنت حينها أنني أمام موهبة ليست سَهلة، وصِرت أنتظر جديد عُمَرْ حتى أرى إن كانت وجهة نظري سليمة أم أن تِلك الطَفرة مُجرد استثناء، وأن الرجل ساخرٌ وحسب، ورغم أن ذلك يَكفيه، فإنه أثبت مُجددًا وفي كُل مرة يُخرج لنا فيها كتابًا جديدًا، أنه جَدير بلقب الصَياد، الذي يصيد العادي والمألوف ليجعل منه فنًا وإبداعًا يُقبلُ عليه القارئ بقوة.
وهُنا تحديدًا مكمن قوة إبداع عُمر طاهر في رأيي، فمن منا مثلًا لم تَكُن الأغاني خَلفية لذكرياته؟ مَن مِنا لم يتَذكر أحداثًا مُعينة تَمُر أمام عينه ووجدانه حينما يسمع أغنية مُعينة سمعها قديمًا في أثناء هذه الأحداث؟ تَقريبًا جميعنا مَر بذلك، لكن مَن مِنا الذي اقتنص الفكرة وأخرجها مِن إطار العاديّ الذي يحدث لَنا جميعًا، وحولها لإبداعٍ وفَن؟
إنه عُمر طاهر في كتابة الجميل إذاعة الأغاني.
ومثل (إذاعة الأغاني) كان (صنايعية مَصر) كتاب نُوستالجي غارق في ذكرياتنا مع أشياء عرفناها وأحببناها بل وعشقناها، دُون أن نعرف عَنها ولا عَن أصحابها أي معلومات، أشياء أسهمت في ضبط مزاج المصريين على حَد وَصف عُمْر نَفسه، كشاي الشيخ الشريب وشكولاتة كوفرتينا، وغيرهما مِن المُنتجات التي وعينا جميعًا عليها وصارت جُزءًا من وعينا، وكان مُهمًا جدًا أن نُشبع رغبتنا في معرفة مصادرها، وبداياتها ورحلة تكونها.
وحينما عُدت إلى كتاباته القديمة وجدت أنها تحمل نَفس الصفات في مُعظمها، والتي أبرزها الحنين للماضي -العام أو الشخصي- والجذب والتشويق المُتمثلان في خِفة الدَم الحقيقية ومُخاطبة الناس في أمور يعلمونها لكن بطريقة لم يعتادوا عليها، وبلُغَةٍ لا تَتَعَالى عليهم، فقط كان الأمر يحتاج مِني إلى إعادة النَظر في كتاباته السابقة والتي كُنت أنظُر إليها مِن زاوية الكتابة الساخرة فحسب.
عُمر طَاهر مَشروع بهجة وإبداع دائم لا يفقد روح الطفولة أبدًا ورُبما ذلك أفضل ما يُميزه، فبداخل كُل منا طِفل يَحتاج إلى مَن يُداعب طفولته ويُذكره بها، ولكن المُعادلة الأصعب أن يُداعب طفولته بعُمق يقبله الكِبار، فنحن أطفال في داخلنا ولكننا كِبار في مشاعرنا وعقولنا، وعُمر استطاع أن يُحقق هذه المُعادلة الصعبة التي تحتاج إلى قَدر وافر من الذكاء والحصافة وبالتأكيد الملكات الإبداعية.
أدام الله إبداعك يا عُمر وأنار لك الطريق وأبقى المَحبة في قُلوب مُحبيك.
اقرأ أيضًا:
عمر طاهر.. الجنون ليس بهذه البساطة!
عمر طاهر.. المشوار الذي تريد أن تذهب إليه دائمًا