المقادير الملائمة لمقال الأكثر قراءة عن سعيد طرابيك
تفرض عليّ وظيفتي أن أكتب مقالا طويلا عريضًا عن رحيل سعيد طرابيك، ليس لأنه فنان كبير صاحب أدوار لا تعوّض، فقد حُوصر في مساحات الصف الثاني والثالث طوال حياته، ورغم موهبته الجميلة، لم يتصدّر الصف أبدا، وليس لأن له موقفًا سياسيًا مغايرًا، يستحق تسليط الضوء عليه و”بروزته”، فلم يكن في حياته سوى الفن، والفن وحده، لكن لأنه “تريند” الآن، والسبب يعرفه القاصي والداني، أنه –يالوقاحته- تزوّج وهو في الرابعة والسبعين!
مصيبة ارتكبها الرجل، لم يسبقه إليها أحد من العالمين، والمصيبة الأكبر أن زوجته فتاة صغيرة وحلوة، وكانت تبدو على ملامحها السعادة يوم الزفاف.
طبعا عندما أصل لهذه النقطة، لابدّ أن أتحدث عن فرضية أن يكون غرض الزيجة الوحيد: المنفعة، الرجل يستمتع بالمزّة وهو “بيودّع”، والمزّة تستمتع بالشهرة وتسليط الأضواء!
ولن يفوتني بالقطع أن أهمز الراحل في رجولته، و”ألقّح كلام” على علاقته الجنسية بزوجته، والتي لا بدّ أن تكون –وفق المخيلة الشعبية المريضة!- هي السبب في وفاته المفاجئة!
حسنًا هذه هي المقادير الملائمة تمامًا لمقال يدخل من أوسع الأبواب حيّز الأكثر قراءة، ويحرص كل من هبّ ودبّ على قراءته، ومشاركته، وإطلاق نكتة أو اثنتين على الرجل، قبل أن يعود منتعشا إلى حياته العظيمة وإنجازاته التي سوف تغيّر وجه الكرة الأرضية، بعد ساعتين إلا ربع!
أما إن لم أفعل هذا، فسوف يغضب مني رئيس التحرير، ويلومني لتفويت فرصة الشماتة في الرجل وتجريسه، ويعطيني درسًا عظيمًا في المهنية ودور الصحفي واحترام ما يطلبه القرّاء، وربما يلومني قرّائي أيضًا لأنني خذلتهم، ولم أكن على مستوى طموحاتهم، وسوف تلومني زوجتي، لأنني لن أظفر بالـ 150 جنيها مكافأة على المقال، والتي ربما كانت تكفي أن يأكل الأولاد لحمًا مرة ثانية هذا الشهر. فيما يبدو أنها مؤامرة كونية ضد طرابيك!
لكني، رغم كل ذلك، لن أفعل، ولن أكتب سوى عن فرحة طرابيك الذي حقّق حلمه بالارتباط بمن أحبّها، وهو ما يعجز كثيرون عن تحقيقه، وعن الونس والدفء الذي ملآ أيامه الأخيرة، والذي ربما نظلّ عمرنا بأكمله نبحث عنهما ولا نجدهما، وعن النشاط والأمل والحماس الذين ظلّوا من سماته الأساسية لآخر لحظة في حياته، ينما الشباب لدينا يهرمون في العشرين، ويترهلون في الثلاثين، وفي الأربعين يبحثون عن المعاش المبكر.
سأكتب عن طرابيك البرنس، الذي ضرب عرض الحائط بالقيل والقال، ورقص في فرحه وغنّى، ووقف مبتسمًا أمام المصوّرين، وقال بلسان الحال “أنا مبسوط يا إخوانّا وطظ في أي حد”، وصرّح للفضائيات والصحف والمواقع بقصة حبّه، وتفاصيل علاقته المثيرة، ورغبته في إنجاب 11 طفلا مثل سيدنا يعقوب، على حد قوله.
طرابيك الذي رحل ما نفسوش في حاجة يا إخوانّا، وتركنا نحن في أرض النفاق، نهري وننكت ونتحايل على جلال الموت ونعصر أدمغتنا كي نستغّل اللحظة، ونحصل على قرّاء وإعلانات وترافيك وتعليقات، نغيّر صور بروفايلاتنا، ونبحث عن طريقة “كيوت” لانتقاد السيسي كي لا نتهم أننا إخوان أو ولاد كلب مش فاهمين حاجة وعايزين يوقّعوا البلد، ونفكّر ماذا سنفعل بعد أن يرفدونا في الشغل آخر الشهر ومهنة الصحافة بتجيب ضلفها، وكيف سندفع الإيجار، و نملأ الثلاجة، ونشتري أي حاجة للشتاء اللي هاجم ده و…و…و…و…و…و…
مع السلامة يا عم سعيد.