عندما أهدتني عمّان…
خلال أيام قليلة سيكون قد مر عام على زيارتي الأولى للأردن، تلك الزيارة التي لم تكن أبدًا في الحسبان، وكذلك ما تركته من أثر وما أخذه أهلها من روح!!
“لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا“
كانت رحلتي للأردن هي الأولى التي أحلق فيها بمفردي خارج البلاد، وكما كنت أحلم تمامًا فلم تكن رحلتي بغرض السياحة فقط، وإنما كانت بمنحة تدريبية من منظمة عالمية تهدف إلى تنمية مهارات الشباب من مختلف الدول العربية.
بدأت الحكاية بأن أرسل لي صديق استمارة التقديم للدورة التدريبية، وانتظرنا حتى موعد الإعلان والذي تم إبلاغه فيه بالقبول، ولم يتم إبلاغي، وهو الأمر الذي خلَّف في نفسي مشاعر متضادة، فرحٌ شديد لقبول الصديق وما يعنيه ذلك من سفره لأول مرة خارج البلاد وأنا أعلم أنه في أشد الحاجة لتلك التجربة وهذه الرحلة، والأخرى قدر من اليأس الذي يليه “الحمد لله.. سأسافر يومًا حتمًا.. إنها فقط مسألة وقت”!
مما جعلني في نهاية الأمر أن أوصي نفسي بالرضا وأكتفي بتلك الفرصة التي سنحت للصديق وأن أترك المسألة كاملة، معلقة كل أحلامي على الآية القائلة “لعل الله يُحدث بعد ذلك أمرًا”.
وقد حدث، حيث تركتُ الأمر كله ورائي، وانشغلت تمامًا في العديد من المسؤوليات، حيث كنت أمُرُ بحدثٍ مؤقت استحوذ على كامل وقتي وجهدي وتفكيري، حتى جاءتني مكالمة في يومٍ فارق ومرهق ومزدحم وكانت قبل موعد بِدأ التدريب بثلاثة أيام، ليخبرني صوت الطرف الآخر الآتي من الأردن بأني قد تم قبولي في الدورة التدريبية، ويحتاج مني تأكيد الحضور لكي يبدأوا في عمل الاجراءات اللازمة!
“ليخسأ الزواج إن كان قيدًا قاتلًا ولم يكن صداقةً ممتعة”
ظل صوت المتحدث وحيدًا لفترة.. فقد أصابتني الصدمة أو كما يقول المثل “القطة كلت لساني” فبمجرد ما سمعت الخبر حتى أصبح صوته في خلفية مشهد يتصدره العديد من الأثاث والحقائب وعربيات النقل التي تقف أسفل البيت تنتظر مساعدة الأصدقاء لتحميل أشياءنا من الدور الثامن ونقلها إلى مكان آخر لا نعلم حتى الآن ماذا يُخبأ لنا، حتى كرر سؤاله فأجبت مترددة مذهولة بشكل لا مهني -لا أتصف به عادةً- “مش عارفة بصراحة أقولك إيه.. اصل أنا بعزِّل دلوقتي”!
فكانت إجابة الطرف الآخر لي بأن أمامي ساعتين كحد أقصى كي أبلغه بموقفي!
كان قرار الرفض هو الأقرب لخاطري وقتها نظرًا لما حولي من مسؤوليات وترتيبات لن أستطيع أن أقوم بها في يومين، مستحيل!! إلا أن إجابة زوجي -وهو صديقي الأقرب- كانت قاطعة، “انتِ اتجننتي !؟”، لم يستطع زوجي وقتها أن يستوعب التردد الذي أصابني لمجرد خوفي من التوقيت ومجموعة من المهام التي يجب أن أنهيها في فترة قياسية بالإضافة للتحضير للسفر لأول مرة خلال ثلاثة أيام، أو يومين بشكل أدق، حتى جاءت تكملة إجابته “اتصلي حالًا وقوليلهم إنك موافقة، وكل حاجة هتخلص قبل السفر، ولو مخلصتش ملكيش دعوة”، ترددت بعدها أيضًا للحظات حتى جاءت لهجته آمرة قاطعة “طاهرة.. اتصلي دلوقتي”!
ألا وقد كان.. اتصلت .. وبلغتهم بموافقتي وانتظرت تذكرتي ودعوتي التي وصلتني قبل السفر بيوم واحد!
مدينة برائحة الياسمين..
كانت إقامتي في مدينة “عمّان” بالأخص في “جبل اللويبده” وهي منطقة راقية، قد تشبه في جوها ومقاهيها حي “الزمالك” في مصر، ولكن برائحة الموالح والورود والياسمين، نعم، ما يسكن ذاكرتي من تلك المدينة هي الأشجار والزهور المتفتحة، وأشجار الموالح التي تغفل عنها أسوار البيوت القصيرة فتتمدد خارجها بأغصانٍ مائلة وكأنها تتقرب للعابرين بلسان حالٍ يقول “هيت لك”، هذا بخلاف رائحة الريحان، ونبات إكليل الجبل الذي يكفي أن تمسح زهوره بيديك لكي تحصل على كفوفٍ عطرة.
كانت مدة زيارتي لا تتعدى العشرة أيام، نمضي أكثر من 9 ساعات من يومنا في التدريب والعمل، لذلك كانت رحلتي بالفعل قصيرة.. جدًا، إلا أن ما حدث بها كان كثيرًا جدًا، مقارنةً بما ارتبطت به الأردن في ذهني قبل زياتي لها بأنها مدينة تنام باكرًا وهو شيءٌ مملٌ للغاية بالنسبة لنا نحن المصرين حيث لا ننام ولا تنام شوارعنا خاصةً وإن كنت من ساكني المناطق الشعبية، إلا أنني من خلال زيارتي، رأيتها بشكلٍ مختلف.
عمّان، تلك المدينة التي جبت بشوارعها مشيًا على الأقدام دون كللٍ أو ملل، نهارًا وليلًا، أداعب الجاذبية صعودًا وهبوطًا على جبالها التي تجبر الشوارع أن تكون بشكل مائل -في أغلب الأحيان-ويتخللها العديد من السلالم، أضحك على جغرافيا المكان وطبيعة التضاريس التي تجعل بعض الساكنين يركنون سياراتهم على أسطح البيوت بأريحيةٍ تامة، أتأمل أشجارها وبيوتها التي لا تتعدى في كثير من الأحيان أكثر من دورين والتي أحلم أن أسكن في شبيهٍ لها يومًا ما، والمقاهي التي يبدع كلٌ منها في الاسم والديكور والموسيقى والاضاءة والنباتات والورود والألوان، تلك المدينة التي أحببتها لم تكن مجرد أراضٍ وشوارع وبيوت وأشجار، وإنما أيضًا روح تمثلت في أهلها.
“أرض من غير ناس ما تنداس”
هذا ما تبادر إلى ذهني في الليلة الأخيرة لي في عمّان.. فالمشي في الشوارع ارتبط بالحكايات، ورائحة الأشجار ارتبطت بالضحكات، وزهر الموالح ارتبط بمشاغابتي كمحاولة فاشلة للحصول على الثمار كما لم أفعل وأنا طفلة، حتى أنني في إحدى الجولات مع صديقةٍ لي كلما وقعت عيني على زهرةٍ أو ثمرة حتى استأذَنت أهلها أن يعطونا منها فعدت من زيارتي لها بزهورٍ وموالح يزينها الترحاب والبسمات، أما المقاهي فقد ارتبطت بسهرنا ولعبنا وضحكاتنا ونقاشاتنا في كل الأمور، أما الميادين فقد كانت ملجأنا بعد أن تتعب من ضيافتنا المقاهي.
في عمَّان رأيت الصدق والصداقة، تعرفت على أشخاص وتعلق قلبي بهم بسرعة كما لم يحدث من قبل، شعرت بالأمان كما لو أني لم أغادر وطني، وتركتهم وأنا أعلم أني حين أعود سأجد أحضان أصدقائي مفتوحة قبل بيوتهم.
في عمّان خلَّفت ورائي قطعة من روحي لا أستردها إلا بوجود الأصدقاء.
“سنرجع يومًا”
في نهاية رحلتي إلى الأردن اكتشفت أنها كانت بمثابة المشهد الطويل، ربما تصدره مشاعر وتجارب مختلفة، إلا أنني عندما دققت النظر والتأمل وجدتُ خلفيةً واحدة تسير بمحاذاة المشهد وتحوطه وتحتويه بشكلٍ لاشعوري، خلفية تجلت في تأملنا بشغف لحدود فلسطين خلال زيارتنا لجبل نيبو بمدينة مادبا، وفي التصفيق الذي حصلت عليه من أحد الأصدقاء عندما اخترت أن أسجل ذكراي على حائط القاعة –وهو تقليد لديهم- بمقطع درويش الشهير “كانت تسمى فلسطين.. صارت تسمى فلسطين”، ويعلو صوت الخلفية في السلاسل التي تحمل “المفتاح” رمز العودة، والميداليات التي تباع هناك لـ “حنظلة” الشخصية الشهيرة لناجي العلي والتي يمكنك أن تكتب في خلفيتها ما شئت، والديكورات الخشبية التي حفر عليها “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”، وتبلغ ذروتها عندما حمَّلتني صديقتي هدية لأحد الأصدقاء في مصر كان قد أوصاها بها وهي حفنة من تراب فلسطين ومن أجل الكرم زينتها له بالورود والحصى، وأهدتني منها بالطبع.
كل ذلك جعل لتلك الرحلة خيطًًا دراميًا وخلفية موسيقية يتصدرها صوت فيروز مُرددةً “سنرجعُ يومًا”.
طاهرة طارق
تعليق واحد