محمود عبد الشكور عن «مساكين يعملون في البحر»: «تجربة جديرة بالتأمل»
أعدت قراءة ديوان “مساكين يعملون في البحر” للشاعر عبد الرحمن مقلد أكثر من مرة، سعيدًا بموهبة شاعر مطبوع، ينحت من الكلمات خيالًا طازجًا، ويصنع من العبارات تجربة جديرة بالتأمل، وتنمحي لديه الفوارق بين الخاص والإنساني العام، يعرف وجيعة البشر، ولكنه يفسح أمامهم بابا للأمل والنجاة.
ينحاز عبد الرحمن مقلد في ديوانه “مساكين يعملون في البحر” الصادر مؤخرًا عن هيئة قصور الثقافة، للفقراء دون صخب، ويمنح التفاصيل حضورًا مكتسحًا، فتكتسب اللغة شحنة مفتوحة على معانٍ ثرية.
هكذا يمكن أن نكتشف “البحر” و”البرتقال” و”الموت” و”الحب” و”الحرب” و”الثورة ” والدم” و”الأب” و”الابن” من زوايا مختلفة، وهكذا يمتزج الحلم والواقع معا، وهكذا يتجاور الغياب والحضور.
أحببت كثيرا قصائد في الديوان بعينها مثل “الدم” و”ثلاث وعشرون قاطرة” و”وصايا فاتن حمامة” و”مثل فلاسفة قدماء” و”نوّار يضئ ويختفي”.
ولو كان عبد الرحمن مقلد عنوانا على جيله، فنحن أمام جيل لديه رؤية واسعة حقا، لا تقنع بالتأمل، ولكنها أكثر تمردًا ورغبة في التغيير، وأكثر وعيًا بالمأسأة الإنسانية، رغم خصوصية مأساة الوطن، ولعل ذلك يفسر أن تحضر في الديوان المدهش: “الزاحفات أمام مستشفى المدينة/ كي يقسن الضغط” و”والذاكرات بأن ما في الجيب / لا يكفى دواء الأنسولين” مثلما يحضر أيضا سقراط والفلاسفة القدامى، والأنبياء الذين لم يستمع إليهم أحد.
وتبقى دومًا في الديوان طاقة من النور ما بقى الحب، وما بقيت الأناشيد، وما بقى صغير يلحظ ما يراه في الغد، وهو يلهو فوق كتف والده .. استمتعوا بالقراءة والتأمل.
صدر ديوان “مساكين يعملون في البحر” مؤخرًا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة وهو الكتاب الثاني لعبد الرحمن مقلد بعد ديوانه “نشيد للحفاظ على البطء”.
من قصائد الديوان
ثَمةَ فَائِدَةٌ لبقَائِك قُرْبَ مَسارَاتِ أرْوَاحِنا،
نحنُ أهلُك..
يلزَمُنا شُرَطِىُّ مُرورٍ جَديرٌ بمَعرفةِ السِرِّ
يَبقى أَنِيسًا لنا وحَزِينًا علينا
فأَيةُ تَجْربَةٍ
خَبّأَتْهَا الحَياةُ لنا
لماذا ستترُكُنا خَائفينَ وتَرْحَلُ
نَحنُ بَنُوك اليَتَامَى،
نُريد قَليلًا من الدِفءِ
واللَحَظَاتِ السَعيدةِ والبُرتقال ..
هُنالكَ ما زالَ وَقتٌ
لتُكتبَ بَعضُ قَصائدِ حُبٍ أَخيرٍ
وتُرْسَلَ أجْسَادُنا خَارجَ الجَاذِبِيةِ..
ما زال مَوْتَى ستَرْثِيهمُ
وجُنودٌ تُحاصِرُهم حَدقاتُ نساءٍ
وبَعضُ أمَانٍ
وأَزْهَارُ غَارٍ تُزيِّنُ أعْنَاقَهم
..
ستجعلُنا لَحَظَاتُ الوَدَاعِ السَرِيعَةُ
نَحْثُو الرِمَالَ على وَجْهِنَا
ونَدققُ فيك
سيُوجِعُنا حزنُ وَجْهِكَ
– وَجْهِ ابنِ مَرْيمَ هَذا –
ولِحْيَةُ سُقْرَاطَ
تِلكَ التي جَمَعَتْنَا هُنَا
كفَلاسِفةٍ قُدماءَ
وجُسْمَانُك الضَخْمُ،
هَذا الذَي نَتَطَوّفُ في قُطْرِه كالحَجيجِ
تَمرُّ عليك ابتِسَامَاتُ أطْفَالِ بَلدَتِك السَاحِليةِ
هل ستَعودُ لنا طَيبًا وأَليفًا
لتَجْعَلنَا نَتثاءبُ ثَانيةً
وتَقُصَّ علينا حِكَاياتِ أجدَادِنا
سوف نَذْهبُ للبَحر..
نَتركُ فيه مَرَاكِبَنا الوَرَقِيةَ
حتَّى تَعُودَ لَنا مِنْ مَوانيَ
لَيسَتْ تَلوحُ مَنارَاتُها فِي المَجَالِ
ولَكِنَها تَتبدَّى بأخْيِلَةِ الصِبيةِ
العَارفينَ بها كالسَرابِ
لذِا لا نَخافُ من البَردِ
لا يَأكلُ الملحُ أَجسَادَنا
لا يُؤرقُنا الشَيْبُ
أو هذه السَنواتُ التي فَجَأَتْنَا
ومَرّتْ سَريعًا ..
محمود عبد الشكور
نائب رئيس تحرير مجلة أكتوبر وكاتب مقال وناقد
اقرأ أيضًا: