باب الدهشة
كان أستاذ أحمد رجلا ودودا، لأول مرة أتتبع رجلا بخلاف والدى وإخوتى، نعم كنت أتتبعه، والتتبع هنا بمعنى التركيز والمحبة لكل ما يخبرنا به وعنه، فكان بالنسبة لى أول من يجذبنى للضياء.
كان عمرى تسع سنوات فى الصف الرابع الابتدائى، حين قررت مدرستى الحكومية المتواضعة زنين الجديدة ببولاق الدكرور أن يدخل مدرس رجل لطالبات الصف الرابع الابتدائى، وأن تتنحى المدرسات جانبا.
أستاذ احمد فهمى الرافض لكلمة مستر الرجل الصعيدى ذو البشرة السمراء، البشوش، الطيب ذو المزاج الرائق دائما، القادر على إقناعك بما يريده، يحقق لك بسهولة معادلة المعلم النبيل، ينصفك حين تحتاج إلى فهم زيادة، مراهنا معك على ما لا تراه أنت فى نفسك.
ليه مش عايزنا نقولك يا مستر؟ كنت أسأله دائما ولا أفهم رده: عشان أنا أستاذ لغة عربية.
هكذا كان معلمى الأول فى المدرسة، فى فترة لا أعلم فيها سوى أننى طفلة عليها عمل واجباتها المدرسية، خلاف أطفال 2016 فأنا كل ما أفعله أننى أستذكر دروسى وأنتظر ما يمليه علىّ والداى، طفلة مملة فى كثير من الأوقات إلا أنها كانت تتعلق بالأشياء بسهولة، تدقق فى الأشياء والأحداث والأشخاص، وكان هو مثل أعلى لى كرجل علم طيب لا يخيفنا.
دائما ما يدلنا على أبواب جديدة فى الدروس، يسهل المعلومة وإن أخبرته أننى لا أحب النحو يا أستاذ، فيخبرنى أن النحو لديه القدرة على جعلى أبتسم، وكأنها معادلة جديدة فى الحياة يرشدنى إليها ذلك الرجل البعيد، وبالفعل تنصفه السماء بعدها بلحظات وأستوعب ما يقال وأجدنى أستطيع حل السؤال فأبتسم وأنا أندهش من كل تلك الطاقة الخارجة منه، وأعبر عن امتنانى له بالابتسام وطلب إحدى الأجندات من والدى الموظف؛ لأهديها له فى رأس السنة .
قد لا يقرأ أستاذ أحمد فهمى مقالى هذا ولا يعرف شيئا عنى، لكننى لا أنسى تلك المرة التى ذهبت فيها، للاشتراك فى إحدى المسابقات الشعرية لطلاب المدارس، وأنا أحفظ عن ظهر قلب تلك القصيدة القديمة لأحمد شوقى برز الثعلب يوما والذى كان مطلعها : برز الثعلب يوما…فى شعار الواعظين وكانت تنتهى بالجملة التى طالما ،حببتها وأجدتها بناء على تدريب أستاذ أحمد: مخطيٌّ من ظنّ يوما أَنّ للثعلبِ دِينا.
لم يخبرنا يوما أو يطلب منا أن ندخل الدروس الخصوصية رغم أنه كان يعطيها على استحياء للبعض ممن يضعف فهمه خلال الحصة المدرسية، وبسذاجة طفله صغيرة كانت تراه حبيبا نبيلا، دون أن تتحول تلك الرؤية إلى أى شىء سوى الامتنان والتركيز معه فى الحصة المدرسية، وعمل الواجبات والتفوق من أجل رضائه.
أتذكر الآن أننى حاولت البحث عنه وذهبت حين تخرجت من كلية الآداب جامعة القاهرة إلى المدرسة ذاتها، لأسأل عنه وجاءنى الرد أنه تم نقله، وحين قابلته صدفه وتعرفت على ملامحه، التى تغيرت بشكل بسيط بعد أن زحف الشعر الأبيض على رأسه، لم أتردد وذهبت بالحماس ذاته الذى صاحبنى فى الفصل وأنا أستمع له، وعرفّته على نفسى و ظللت أذكره بى، وبكل تلك المواقف، فابتسم وصافحنى وهو فرحا حين أخبرته أننى أعمل الآن صحفية لم تأخذ الصدفة سوى دقائق، ولا أعرف حتى الآن كيف رأنى، وهل شعر بالإنصاف حين أخبرته تلميذته أنه نجح معها إلى هذا الحد من الامتنان له؟.
لكننى شعرت بالراحة، فطالما رغبت فى إخباره أنه أول من فتح لى باب الدهشة على الحياة، أول من راهن معى على حروف غامضة لم أع لحظتها الى أين تأخذنى وأنا أحتاج الآن إلى شكره وتحيته.
نسمة تليمة
اقرأ أيضًا: