مراسيل الحب
أنا واللغة العربية، ومدرسون ومدرسات كانوا مراسيل الحب بيننا. يحملون رسائلها إلي مرة بعد مرة، حتى بدأ قلبي يرق لها ثم يقترب قليلا إلى أن أصبح من مجاذيبها. وعلامة ذلك الانجذاب أني لم أعد أنتظر الرسالة القادمة بل اسعى بنفسي إلي المدرسين المتوسطين بيني وبينها كي يمدوني بالمزيد من بحرها. واقضي بين رفوف المكتبة ساعات اتنقل من كتاب إلى آخر مسحورا بعالمها الممتع.
وكتلميذ تنقل في مدارس كثيرة، من مصر الجديدة إلى أعماق الدقهلية، إلى مدارس مكة المكرمة، عرفت مدرسين ومدرسات للغة العربية ربما لا أذكرهم جميعا، ولكن كل منهم وضع لبنة في بناء المحبة وغرس بذرة للشوق وصب قطرة من عسل المتعة الذي تذوقته وأنا مع العربية.
في ثانوية الملك عبد العزيز بمكة، لا يمكن أن أنسى الأستاذ فهد الزهراني الذي قدمني لأمثل المدرسة في مسابقة أدبية وكانت لديه ثقة في نجاحي، حتى إنه رفض مشاركة زميل سعودي كان قد جاء في نفس يوم المسابقة طالبا أن يحل محلي لأنه من أهل البلد وأنا مجرد مقيم لا يحق لي تمثيل المدرسة.
وأشار الزميل بخبث إلى أنه سيكتب شكوى في هذا الأستاذ بسبب اختياره لي. ولكن الأستاذ أصر على موقفه وعندما حصلت على المركز الأول أصبح يحكي هذه القصة بفخر وهو يقول إنه يعرف كيف يختار من يفوز بالجائزة وإنه لم يعبأ بتهديدات الطالب المتعجرف. وبعد أن شاركت في المسابقة أهداني الأستاذ عددا من الأقلام وأشياء أخرى كهدايا ولكن تظل هذه المسابقة الأدبية هي أكبر هدية لي حيث ظهر اسمي في الجريدة مع الفائزين.
وكانت هذه بداية ارتباط اسمي بالأدب وبداية رحلة من الكتابة لم تكن غزيرة أو متدفقة كما يجب، وشابها الكثير من التصحّر والغياب وإن كانت لم تتوقف قط.
هذا الغياب دفع بي إلى قاع النسيان، فلم يطلب مني الأستاذ حسام مصطفى إبراهيم أن أكتب عن مدرسي اللغة العربية كما طلب من كتاب آخرين. ولكني دعوت نفسي للكتابة، فليس بيني وبينها حجاب ولا واسطة. ولعله ينشر كلماتي المتواضعة عنده وربما يقرأها أحد زوار موقع “اكتب صح” إن كنت محظوظا. وكلنا يدّعي وصلا لليلى كما يقولون، ولكن ليلى العربية لا تفتح أبوابها إلا لمن تحبه ويبدو أنها أحبّت حساما أكثر منا جميعا فاتخذته رسولا يبشّر بجنتها ويحذر من نار البعد عنها ويحنو على السائرين المتعثرين في طريقها ويأخذ بيدهم.
لنعد لموضوعنا عن المدرسين.
العجيب أن واحدا من أهم المدرسين الذين تأثرت بهم، هو الأستاذ أحمد نور الهدى في نفس المدرسة. وهو في الواقع مدرس أحياء وليس لغة عربية. ولكنه كان متميزا في لغته وكان شاعرا عظيما وخطاطا موهوبا. في أحد الأيام كان هناك مدرس غائب وأصبحت حصته خالية وسمح لنا ان نختار ما نفعله فيها. فقمت بجمع التوقيعات من طلاب الفصل كي نطلب من الأستاذ أحمد أن يشرح لنا “علم العروض” وقد استجاب لنا وشرح “بحر الوافر” لأن الوقت لا يسمح بشرح علم العروض كله.
قضيت أياما أحاول أن أفك شفرة هذا العروض العجيب وأن اركب كلماتي المتعثرة على بحر الوافر، الذي كان رغم سهولته عميقا وبعيدا علي. حفظت من البحر أبياتا وسمعت قصائده وأغانيه إلى أن جاء يوم كتبت فيه أول قصيدة من هذا البحر أخيرا. إن جمع التوقيعات والحصة التعليمية لم تضع هباء.
وفي أثناء كتابة هذا الموضوع، بحثت عن الأستاذ أحمد فوجدت فيديو في المدرسة تظهر في خلفيته لوحة عليها قصيدة له :
https://www.youtube.com/watch?v=JZL4C7CKqSk
وتصادف أنها أيضا من بحر الوافر. يقول مطلعها الذي يظهر خلف الشباب في الفيديو:
إذا غضب الفتى فقد اتزانه، وزايله التعقل والرزانة
وصار لكل شيطان حصانا، يصرفه وليس له حصانة
وأقوى الناس أحلمهم طباعا
وعرفت أيضا أنه قد تقاعد وأنهم صنعوا له فيديو يحكي تاريخه والشهادات التكريمية التي حصل عليها في مشواره:
https://www.youtube.com/watch?v=6IVYicMLWCk
وهذه لفتة طيبة جدا. يا ليتنا لا نكتفي بكلمات الشكر للمدرسين وأن نستخدم التكنولوجيا في تقديم الشكر بشكل حديث فيه صوت وصورة. هذا الفيديو يجمع الذكريات للمدرس والطلاب، كما يحفز باقي المدرسين الذين لازالوا يعملون في المجال التربوي أن يبذلوا جهدهم كي يتذكرهم الناس بالخير ويبحثون عنهم ويشكرونهم ويدعون لهم.
شكرا أستاذتي جميعا، لولاكم لما وصلت رسائل المحبة ولظل القلب جافا، يتجرع لغة أجنبية من هنا أو هناك دون أن يصل إلى الدر الكامن والجمال اللانهائي والاسرار الخفية لهذه اللغة الأبدية الخالدة.
معاذ رياض
اقرأ أيضًا: