المنطقة الحرة

أعشق التفاصيل

بسمة شيخو

حظي كان جيدًا فيما يتعلق بأساتذة اللغة العربية، فلم يأتِ من يستطيع تشويه العلاقة بيني وبينها، ولا حتى أن يخدشها، إلا أنهم كانوا يفعلون ذلك ربما مع طلابٍ آخرين، فهم بشكلٍ غير مباشر أو مقصود يغرقون الطالب ببعض التفاصيل حتى يشعر بأنه أضعف بكثير من أن يواجه هذه اللغة، حتى تصبح شبحًا مخيفًا!

وهذا الخوف أو الكره للغة أو قواعدها والهروب منها وتسخيف كل ما يتعلّق بها يبقى مرافقًا للشخص.

 يكبر ولا يعرف سبب ما يشعر به، ولماذا يكفّنه العجز إن فكّر بتصحيح صورة اللغة في مرآته الداخلية.

 ينسى حينها أن أستاذ الطفولة قد كسر ترك المرآة وحكم عليك بعقدةٍ أبدية، كيف لا والأستاذ هو أول من يفتح لنا الباب ويدخلنا لعالمٍ جديد بالكامل، أحرف وكلمات وجمل، حركاتٌ تسبح وأصواتٌ تعجّ بالمكان.

كنت أعشق التفاصيل التي يعرضها أساتذة اللغة العربية، أسجّل ما يذكرونه سريعًا بعد ترديد ستدرسونه في سنوات لاحقة -الالتزام الشديد بالمنهج الدراسي كان يزعجني- ، فأحرص على معرفته في نفس اليوم من إخوتي.

كانت مدرّسة اللغة العربية في المرحلة الإعدادية –منى صبري- تفرض الحديث بالفصحى خلال حصتها، ولا مجال هنا لقبول الخطأ أبدًا، البعض كان يتلكأ بدايةً، لكن الأمر يصبح ممتعًا فيما بعد.

كنت ألاحق الأشعة التي تلمع بين القصائد؛ أتأمّل روعة هذه اللغة بعد أن يشرح أستاذ العربي في المرحلة الثانوية محمد طويلة –الأستاذ الأحب على قلبي- كيف يختزل بيتٌ شعري عالماً كاملًا، وكيف يكون لاستخدام كلمةٍ معيّنة في مكانها الصحيح الأثر الأكبر بإيصال الفكرة، بعض شروحاته مازالت حاضرة في ذهني توّسع تلقي الكلام كلّما ضاقت الأحكام المسبقة ببعض الجُمل في رأسي.

القواعد كانت لعبتي المفضلة، متعة لا توصف أن أقوم بإعراب لكثير من الكلمات وأحياناً دون طلبٍ من أحد، أغيّر حركات الكلمات وأراقب اختلاف المعاني، أتابع برامج تعليمية لصفوف أعلى، أصغي للأساتذة عبر التلفاز الذين كانوا يقدّمون كلّ ما لديهم بإخلاص بالغ، برنامج “المناهل” والذي لن يعرفه إلا جيل السبعينات والثمانينات كان معلماً أيضاً للعربية في صغري مع بعض الفقرات “افتح يا سمسم” من منا ينسى أبو الحروف.

أما اللغة العربية في الجامعة فلم تحضر إلا كمادة خجول، يستغرب الجميع وجودها باعتبار اختصاصي الجامعي “الفنون الجميلة”.

إلا أن الإهمال هذا لم يبرز إلا بعد أن فرضوا على طلبة الماجستير مناقشة رسائلهم بلغة عربية سليمة، النتائج كانت كارثية لكنني نجوت وتذكرت “منى صبري” وتذكرت كم كنت محظوظة!

بسمة شيخو – شاعرة سورية

اقرأ أيضًا:

الأستاذ هاني وردة

وصرخت ميس صافيناز

رسائل الغياب

لماذا لم تعودي يا ميس شيرين؟ 

المدينة البعيدة

كساحر خفيف اليد

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى