المنطقة الحرة

العربية بين يدي معلماتي

سامية عياش روائية من فلسطين

ما الذي في وسعي تذكره عن معلمات اللغة العربية الآن؟

في الصف الرابع تحديدا، وبينما أعاني قلة التأقلم إثر انتقال إقامتنا من الأردن إلى الإمارات، وفيما أختبئ من العيون في الصفوف الخلفية، نادتني المعلمة ماجدة: اقرئي!

كانت هذه الكلمة تشبه قردا قفز على صدري، قفز وانتهى، وستبدأ الآن مرحلة السخرية العالية، ولسانه الممدود نحوي.. إقرئي، اسمك سامية صح؟ وأبلع ريقي بصعوبة.. ولا أنطق. أجلس في الكرسي وأبدأ في موجة بكاء صامتة. تنادي المعلمة ماجدة علي، تناولني دفترها وأقلامها، مثلما كانت تفعل مع الطالبة الأولى على الصف، أدخل غرفة المعلمات، تعرّفني المعلمة ماجدة على بقية المعلمات، تقول لهم: سامية بنت شطورة.. ستقرأ لنا الحصة القادمة بصوت أعلى..

يبدأ التحدي بيني وبين نفسي، أقرأ الدرس ثلاث وخمس وتسع مرات، أمام أمي يصبح الدرس سهلا مثل جرعة ماء، لكن في الصف: أحاول رفع يدي للمرة الأولى، أقرأ، أتلعثم، أقرأ، أتأتئ، تصبر المعلمة، أقرأ.. لماذا لا أقرأ الدرس مثلما أقرأه في البيت؟ أصاب بالإحباط، تعطيني قصة من المكتبة: اقرئيها قبل البنات! أقرأ أمام أمي، أقرأ قبالة المرآة، أقرأ أمام أبي، أمام جارتنا الهندية..

في الصف أقرأ، أتعلثم، تصبر المعلمة، تصحح، أقرأ، تصفق لي، تصفق البنات خلفها، بعد مدة بسيطة أصبح ثاني بنت تقرأ في الصف. سأصبح أول من يقرأ قريبا، أقول لنفسي دائما حتى صرت..

لم أكن أعي مثل الآن أن القراءة مفتاح اللغة، بابها الذي يقوّم نفوسنا، هذا التحدي الذي زجتني فيه المعلمة ماجدة، أول نافذة تفتح، أول طريق أعبرها نحو العربية..

ما الذي أذكره بوضوح أيضا؟

ورقة التعبير التي وُزعت على جميع بنات الصف العاشر عداي، لتنادي عليّ المعلمة مريم سعيد أخيرا، باسمي الثلاثي، أمام ثلاثين طالبة، بكوب مليء بالشوكولاته مطبوع عليها: هذه أول مرة أعطي طالبة علامة كاملة في التعبير، رغم ذلك، العلامة ليست مهمة بقدر إيماني أنك ستصبحين كاتبة مهمة.. اقرئي يا سامية، اقرئي واقرئي.

الدقائق العشرة التي خصصتها لي معلمتي مريم بعد ذلك، كانت تطوي خجلي رويدا رويدا، أنا البنت الخائفة من الكلمات العاطفية، المترددة في البوح، المتلعثمة في ذاتها، القلقة من النظرات حولها حين تحكي عن الغربة والوطن..

هذه المحبة المعجونة بالثقة هي ما أظل أذكره، الطبطبة على الكتف، والمسح على رأسي وكأنني قلت شيئا يستحق الإلتفات، الاندفاع بعدها نحو الكتابة وكأن شيئا في قلبي يمكن أن ينتهي لو لم ألحق به..

لم أسجل في كلية الآداب، سجلت في كلية العلوم، قسم الأحياء، كنتُ خائفة من الاقتراب من الأدب، كمادة دراسية، مادة يمكن الاختبار بها، فيما تعني لي مساحة التدفق والحياة، ظللت أشك أن قراري كان صائبا حتى قابلت الدكتور عادل أسطة، قائلا: أنت عاقلة يا بنت.. هذا أفضل ما يمكن فعله للإبقاء على وهج الكتابة، أدرّس النقد الأدبي، وكلما بدأت كتابة شيء ما نقدت نفسي آلاف المرات حتى تفسد الكتابة أو يفسد المزاج لها.. أي والله عاقلة!

سأقول إنني أصدقه، وأصدق تكراره: كي تظل الشعلة متوقدة، إقرئي، فقط!

سامية مصطفى عياش – روائية فلسطينية

اقرأ أيضًا:

الأستاذ هاني وردة

وصرخت ميس صافيناز

رسائل الغياب

لماذا لم تعودي يا ميس شيرين؟ 

المدينة البعيدة

كساحر خفيف اليد

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى