المنطقة الحرة

مريم شمسان.. الراحلة الباقية

لم تكن “أبلة مريم” تشبه أحدًا..

فتاة رائعة الجمال، صوتها موسيقى تبهجنا.. تغنّي لنا في الطابور الصباحي.. وتدرسنا مواد اللغة العربية (قواعد النحو، الأدب والنصوص، البلاغة والنقد، والتعبير)، كنا نحن -الدفعة السادسة من مدرسة تحفيظ القرآن الأولى بجدة، بالمملكة العربية السعودية- الدفعة الوحيدة التي حظيت بها معلمة للغة العربية طوال سنوات الثانوية الثلاث..

بدأت معنا من حيث انتهت معلمات المرحلتين الابتدائية والمتوسطة من شحننا بالغضب من اللغة العربية.. تعرفت إلينا -بنات الصف الأول الثانوي- ونحن لا نُحسن الكتابة، ولا الإملاء.. خطوطنا معوجّة ولغتنا ركيكة -رغم حفظنا للقرآن- نستصعب الإعراب ونكره حفظ النصوص وترهقنا حصص التعبير..

بدأت معنا “أبلة مريم” من الصفر.. تحملت عناء تعليمنا الهمزات ووضع التنوين على الحرف الذي يسبق ألف نهاية الكلمة.. لم تتذمر أبدًا من جهلنا وكراهيتنا للعربية.. أهدت لنا قلبها.. وأغرقتنا بفيض محبتها العظيمة وأمسكت بأيادينا الغضة حتى تخرجنا وكلنا أديبات وشاعرات.. كلنا.. خطنا يشبه خطها، وتذوقنا للشعر يشبه روحها الأديبة.. وكلامنا وفكرها صدى لروحها الطاهرة.. كانت لنا أمًا.. وكنا لها زهورًا لم تمهلها الحياة لتراها تتفتح عن شابات يافعات ناجحات مؤثرات في مجتمعاتهن على اختلاف جنسياتهن..

تحملت “أبلة مريم” من أجلنا الكثير.. وضعها كمحبوبة وحيدة اجتمعت عليها كل البنات كان يؤرق إدارة المدرسة الصارمة.. اتهمت أنها تفسد الطالبات عندما وسعت مداركنا بالقراءة.. وعندما علمتنا أن وراء هذا العالم المغلق عوالم أخرى مشرقة.. ووراء هذه الوجوه القاسية التي تحيطنا حياة واسعة بها غامض كبير جميل اسمه الأمل..

علمتنا كيف ننطق، وكيف نمسك بالقلم، ونكتب.. علمتنا كيف نغني، وكيف نفرح.. علمتنا الحب، والشعر، وتذوق الأدب.. علمتنا كيف نحترم انسانيتنا، ونعتز بأنوثتنا.. ونحسن اختياراتنا..

لم تتركنا “أبلة مريم” حتى بعد تخرجنا في المدرسة.. كانت تجمعنا في بيتها الجميل، تسمع منا.. وتحكي لنا.. وتحتضننا وتخفف عنا..

كانت محاربة في زمن يائس، وشجاعة جدا في مجتمع خائف، كانت النور والأمل والحب والحياة.. كانت وهج العمر، وحلم الطفولة وسحر الشباب.. كانت وحدها كل نوافذنا.. وكل تصديقنا بأن وراء الأبواب الموصدة سعادة لا بدّ أن تأتي..

ولأن الملائكة لا تسكن الدنيا.. رحلت في هدوء بعد أن تألمت في صمت.. دون أن نشعر جميعا.. انسلّت من بين أيدينا مخلّفة لنا فاجعة لم نبرأ منها رغم مرور سنوات عشر على رحيلها..

قتلتها قسوة الحياة، ولم يحتمل قلبها الحي أبدًا هوان الدنيا.. اختارها الله أولا لأنها كانت أنقانا وأطهرنا.. رحلت وتركت خلفها جيلا من بناتها.. يبكيها كل يوم.. ويدعو لها الله في كل صلاة أن يرحمها كما رحمتنا.. وأن يجمعنا بها كما جمع قلوبنا على محبتها..

رحمة الله عليكِ يا معلمتي الأثيرة.. وإنا على العهد باقون.. يا حبيبتي.. حتى نلتقي

قصيدة هدى الصاوي قصيدة هدى الصاوي

 ابنتك هدى الصاوي

اقرأ أيضًا:

الأستاذ هاني وردة

وصرخت ميس صافيناز

رسائل الغياب

لماذا لم تعودي يا ميس شيرين؟ 

المدينة البعيدة

كساحر خفيف اليد

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى