المنطقة الحرة

لولاهم ما تذوقت جمال الأشياء

رضوى علي

كنت صغيرة لا أعي من اللغة العربية إلّا الحروف الأبجدية كما علمتني إياها معلمتي بروضة الأطفال.

 كانت ذات وجه أسمر بشوش، تربط كل حرف من الحروف بما يبدأ به من أسماء الحيوانات والفاكهة، فكان الألف صديق “أرنب” وكانت الباء صديقة “بطة” وكانت التاء صديقة “تفاحة”.

 كانت تقص علينا ما تيسر كل يوم من قصص الأنبياء، نجلس قبالتها مسحورين ونحن نستمع إلى ما تقرأه علينا من كتاب القصص الذي كان دائمًا بحوزتها، حتى إذا ما أحبّت مكافأتنا على شيء تقرأ لنا منه، كُنا نسمع في سكون تام ما تقرأه الأبلة علينا من كلام منظوم له وقع جميل على آذاننا ولكننا لا نعيي منه شيئا، كانت تحب أن تقرأ لنا القصة باللغة العربية.

 أذكر أننا لم نكن نمل سماعها أبدا، كُنا كمن يستمع إلى أغنية لا يفهم لغتها لكنها تُطربُ روحه وأُذُنيه، وحين تنتهي من قراءة فقرة من القصة كانت تشرحها لنا بلغةٍ مبسطة، فتحكي لنا قصة سيدنا إبراهيم وكيف نجاه الله من نار قومه، وقصة ذئب يوسف وكيف برّأه الله من أكل لحم النبي الكريم، وهكذا تشكل في وعيي الطفولي أن معلم اللغة العربية، مدخلنا لكل ما هو سحري وجميل.

في المرحلة الابتدائية، كان الأستاذ عبد الصمد هو معلم اللغة العربية في مدرستي بسوهاج، وهو رجل وقور يُجيد تلاوة القرآن الكريم، لهُ صوتٌ شجي ما إن يبدأ في قراءة آيات الذكر الحكيم حتى يُنصتُ جميعنا في خشوع ورهبة، حتى أن منّا من كان يبكي متأثرًا لما نسمع، دون أن نفهم لماذا يُبكينا صوته، ومع ذلك كُنا نخشى إغصابه أو التسبب في ضيقه حتى لا يعاقبنا بحرماننا من سماعنا لصوته العذب حين يرتل علينا الآيات الكريمة.

وحين تركت المدرسة وسافرت إلى القاهرة التحقت بمدرسة ابتدائية قضيت بها عامين، كان معلم اللغة العربية وقتها هو من علّمنا كيف نصلي، كان يتوضأ ويأتي بسجادة صلاة وفي حصة الاحتياطي يصلي أمامنا ويشرح لنا كيف أننا حين نُصلي فإننا نتوجه بكُليتنا إلى الله، وأننا حين نرفع أيدينا في تكبيرة الإحرام ونقول الله أكبر فإننا نرمي خلف ظهورنا كل ما يُخيفنا ويُزعجنا لأن الله أكبر من كل شيء، كُنا صغارًا على أن نعيّ ذلك كله، لكنني حين كبرت بعض الشيء وبدأت أصلي كنت كلما هممت برفع يدي للصلاة يردد قلبي أن الله أكبر من كل ما أخاف وكل ما يُثقل روحي، لذا فأنا مدينة بثواب ذلك كله لمعلمي في الصفين الرابع والخامس الابتدائي.

وحين التحقت بالمرحلة الإعدادية، كانت الأستاذة آمال رحمة الله عليها هى معلمة اللغة العربية، كانت حنونا وصديقة لنا جميعًا، هي من شجعتني على القراءة، كانت تقول إن لي صوتًا قويًا ولا بُدّ أن أتغلّب على خوفي حتى ترشحني لفريق الإذاعة المدرسية، فكانت تحثّني على الوقوف أمام زميلاتي في الفصل لأقرأ عليهم ما كان مقررًا علينا من نصوص نثريةٍ وشعرية.

أسلوبها كان جميلا في شرح النصوص الشعرية، وأذكر أنه في الوقت الذي كان يشكو زملاؤنا في المدرسة من صعوبة مواطن الجمال في النصوص كُنا نحن نفهمها ونحفظها عن ظهر قلب، ومُنذ ذلك الحين وجماليات اللغة العربية ارتبطت معي بروح الأستاذة آمال، بما فيها من عذوبة وجمال وبراح يتسع لما يجول في خاطر المرء منّا.

ثم كبرنا بعض الشيء، والتحقنا بالمدرسة الثانوية، تناوب على تدريسنا اللغة العربية ثلاثة مُعلمين، كانوا جميعهم كآبائنا، كانت حصة اللغة العربية العربية تشبه أم جميع حصص اليوم الدراسي، فمعلمها له النصيب الأكبر من حصص اليوم، لاتساع فروعها، من نحو ونصوص وقراءة وبلاغة وأدب.

 وكان لنا بين ذلك كله متسعٌ من الوقت لنوجه ما يشغلنا من أسئلة إلى معملنا، كنت أذهب إليه بقصيدة قرأتها في جريدة الأهرام أشكو له أن معانيها يستعصي عليّ فهمها، فيقرأها عليَّ مرارًا وتكرارًا حتى أشعر بوقع الكلمات على روحي وحين يبدأ في شرحها أكون كمن يقرأ القصيدة لأول مرة، فقد أضاف لروحي أبعادًا وفتح لي طاقات نورٍ جعلتني فيما بعد أتذوّق الكلمات وتعيها روحي قبل أن تُدرك معناها.

 كُنا وقتها ندرس قصيدة لأبي فراسٍ الحمداني، وأذكر أنه طلب منّا أن نذهب ونستمع إلى القصيدة أولًا بصوت السيدة أم كلثوم كواجب، قبل أن يبدأ في شرحها لنا، لذا فله الفضل الأول في أن عرفت روحي السيّدة أُم كلثوم، وأن أصبحت من مجاذيبها، وكلما سمعتها تشدو بقصيدة تذكرت معلمي ودعوت الله أن يبارك عمره، ويزيده جمالًا وسعةً في روحه.

وفي الصف الثاني والثالث الثانوي كنت أذهب إلى دروس اللغة العربية في بيت صديقتنا إيمان، كان أستاذنا آنذاك الأستاذ أشرف، موسوعيا، يحدثنا في الفقة والأدب والبلاغة، يحكي لنا عن الأدباء والشعراء ومن أثروا اللغة بحروفهم، أذكر أنه حين كان يوبّخني لتقصيري في مراجعة دروسي كان يقول “اتقِ الله يا سُعاد” .

مرّةً تلو الأخرى حتى تشجعت وسألته من تكون سعاد، فقال:

“بانَتْ سُعادُ فَقَلبي اليومَ مَتْبولُ

مُتَيَّمٌ إثْرَها لم يُفْدَ مَكْبولُ

وما سعادُ غَداةَ البيْنِ إذ رَحَلوا

إلاّ أَغَنُّ غَضيضُ الطَّرْفِ مَكْحولُ

تَجْلو عَوارِضَ ذي ظَلْمٍ إذا ابْتَسَمَتْ

كأنّهُ مُنْهَلٌ بالرَّاحِ مَعْلولُ”

فأبتسم لوقع الكلمات وجمال نظمها، وتبتسم صديقاتي الحاضرات، ونتوسل له أن يشرح لنا معاني القصيدة، فيخبرنا أن الوقت لا يكفي على وعدٍ منه أنّا إذا التزمنا مذاكرة دروسنا في المرّة المقبلة، فسوف يكمل لنا قراءة أبيات القصيدة ويشرح جماليتها ويحكي قصة صاحبها مع رسول الله صلى الله عليه  وسلم.

له الفضل في أن علمنا قراءة الشعر وحبّب إلينا البلاغة، كان يتحدث عن بلاغة سيدنا عليّ كرم الله وجهه وفصاحة المتنبي ولوعة أشعار قيس بن الملوّح وعذوبة معانيه، قربنا من قواعد النحو وحببها إلينا، كان يقول أن النحو رياضيات اللغة العربية.

في الواقع، أنا مدينةٌ بكل ما تعلمته، سواء أكان خاصا باللغة العربية أو بالحياة عموما، لمعلمي اللغة العربية هؤلاء، فلولاهم ما تذوقت جمال الأشياء.

فكل عام وجميعهم بخير

كل عام ولغتنا الجميلة بخير

رضوى علي

اقرأ أيضًا:

الأستاذ هاني وردة

وصرخت ميس صافيناز

رسائل الغياب

لماذا 1لم تعودي يا ميس شيرين؟ 

المدينة البعيدة

كساحر خفيف اليد

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى