المنطقة الحرة

مشوار الكراهية والعشق

كارولينا كمال

لا يمكن أن أطلق على علاقتي باللغة العربية، أنها علاقة حب من الكلمة الأولى، على العكس كانت البداية مؤلمة وطويلة، حيث تعلمت الإمساك بالقلم قبل دخول المدرسة، لأن أمي المُعلمة بالثانوي التجاري ترى أن البداية حجر الزاوية، فكانت تُجبرنا على كتابة أسمائنا عشرات المرات عن طريق الأعمدة، تضع كل حرف منفصل في عمود ونُعيد كتابته عشرات المرات، ولأن اسمي مكوّن من سبعة أحرف فكنت أكرهه وأكره الكتابة والأحرف بشكل عام!

بدأت المرحلة الدراسية وأنا أعشق الأرقام واللعب بالعمليات الحسابية، وكانت علاقتي باللغة العربية مبهمة تمامًا، خاصة النحو والصرف، لا يمكنني فهم منطقها وبالتالي لا أستطيع الاحتفاظ بقواعدها في مخي ما دمت لم أقتنع بها!

أما المحفوظات فلم تكن مشكلة كبيرة، خاصة مع أبيات الشعر، ولكن ما كان لافتا  بالنسبة لي، هو عشقي للتعبير، كنت أنتظر الحصة التي تطلب فيها المُعلمة الكتابة عن أي موضوع، ولكن خطي الذي يشبه “نعكشة الفراخ” كان يحطم أحلامي بالحصول على الدرجة النهائية مهما أبدعت في الكتابة لأن لا أحد يستطيع فك طلاسمه حتى أنا شخصيًا.

لم نبدأ الدروس الخصوصية إلا في الشهادة الابتدائية، وكنهج أبناء عائلتي كان مدرس اللغة العربية أستاذ محمد السيسي معلّم الأجيال ملاذهم، فلحت ابنة عمي الكبرى وأختي الكبيرة في إنهاء المرحلة الابتدائية لديه رغم المعاناة والذكريات الأليمة، وربما لساندويتشات “المخ والسمين” التي اعتاد والدي إغراءنا بها للاستمرار مع المدرس الذي يضرب الطلبة بالسلك الكهربائي، دور في صمودهن، إلا أن هذه الإغراءات لم تفلح مع ابنه عمي الأخرى وأنا وأخي الأصغر، لأكثر من شهر، وأقسمنا حتى لو وفر لنا والدي مسمطا بأكمله فلن نستمر، نعم كنا أطفالا يمكن شراء خوفنا وذمتنا بساندويتش “مخ” وليس كيسا من الشيبسي كالأطفال العادية.

بدأت كتابة أول قصة قصيرة وأنا في المرحلة الابتدائية، واشتركت في جميع المسابقات الخاصة بالأبحاث المدرسية والكتابة، وفزت بأول شهادات استثمار تساوي 14 جنيها لحصولي على المركز الأول على مستوى المديرية في كتابة بحث، ولا أعرف حتى الآن ما أهمية هذه الشهادات أو فيما تستخدم ولكني أحتفظ بها تذكارًا، ولعل الفضل لوالدي الذي ساعدني على تنمية ملكة الكتابة لدي ويشجعني كلما دونت قصة أخجل الآن من قراءتها وأضحك كلما طالعت الدفتر السري الذي دونت فيه هذه القصص الطفولية واحتفظت به لليوم.

استمرت أزمة النحو والصرف معي حتى مرحلة الثانوي، وقالها لي المدرس “يا بنتي إنتي  مش نافعة خالص في العربي” لم يلتفت لمقدرتي على التذوق الأدبي، وفي كل مرة يلح على أن التزم بالجماليات المذكورة في الكتاب المدرسي وألا أتطرق لجماليات في النص لا وجود لها في المنهج الوزاري، فكنت أنشغل عنه وأبحث عن الجماليات التي تمسّني، وكانت درجاتي في الامتحانات خير دليل على فشلي.

كنت أقضي الوقت في قراءة الروايات العالمية المكدّسة في مكتبة والدي، بعد أن أخبئها في درج مكتبي وأسهر بالساعات، فيظن والداي أني منهمكة كطلبة الثانوية العامة، وصدمتهم درجاتي بعد ظهور النتيجة لقضائي كل هذه الساعات، وعدم حصولي على مجموع يؤهلني لكلية الطب، كنت أجلس لأكتب عشرات المواضيع الخيالية عوض بذل المجهود ذاته في الاستذكار، لأني اكتشفت عشقي للكتابة، وحينها كانت الكتابة دون هدف، فقط لممارسة متعة التدوين بالقلم على الورقة.

في مرحلة الدراسة الجامعية، اكتشفت أن أزمة اللغة العربية سوف تلازمني أربع سنوات أخرى، لأني التحقت بقسم الإعلام، وبالفعل كانت أول مادة أحصل فيها على صفر: النحو والصرف في السنة الأولى، ولكن حصولي على المركز الثاني في كتابة القصة القصيرة في العام ذاته، أصابني بحالة من الدهشة، كيف تكون علاقتي بقواعد اللغة في منتهي السوء إذا ما اعتبرنا أن الصفر يُشير لوجود أي علاقة بالأساس، وفي الوقت ذاته تحصد قصصي مراكز في مسابقات يخوضها طلبة قسم اللغة العربية بالكلية!

استمرّت العلاقة المريبة التي جمعتني باللغة العربية ما بين عشقي للأحرف والكلمات والكتابة والقراءة وتذوق الجماليات، وعجزي التام عن استيعاب قواعدها وأركانها، واعتمادي على الموسيقى لضبط تشكيلها وإعرابها قدر الإمكان، وما أكتبه للأسف يشوبه الكثير من الأخطاء النحوية المخجلة، ما دفعني لمحاولة القضاء على هذه الجريمة في حقي وحق اللغة التي أهواها بمطالعة كتب عن قواعد اللغة، وأعلم أن حتى الآن ما زلت بحاجة لتحسين علاقتي بالنحو والصرف.

اللغة العربية كفيلة بأن تُسيل دموعي مثل اللوحات الجميلة، فإذا ما قرأت في رواية جملة تفنن الكاتب في تراكيبها وخيالها أظل أصرخ “عملها ازاي ده ابن اللذينة”، وأعيش على أمل أن يأتي يوم وأنجح فيه في كتابة جملة مماثلة تحمل من السحر اللغوي وخيال المعنى ما يدفع آخرين إلى أن يصرخوا “عملتها ازاي دي بنت اللذينة”!

كارولين كامل

اقرأ أيضًا:

الأستاذ هاني وردة

وصرخت ميس صافيناز

رسائل الغياب

لماذا 1لم تعودي يا ميس شيرين؟ 

المدينة البعيدة

كساحر خفيف اليد

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى