أستاذتي بين ضمير الغائب في النحو والحاضر في زمن
1
الاثنان عربيان من نفس الدولة ومن نفس المحافظة. التقيا في أجواء العمل المنمقة الرتيبة والمتكلفة. تبادلا حوارًا شخصيًا متعجلا بالغة الانجليزية، فشعرتُ بالاستفزاز. سألتُ الطرفَ الذي أعرفه: لما تحادثينه بالانجليزية وأنتِ عربية ومصرية وهو كذلك؟ قالت بعد قليل من الحيرة: هو الذي بدأ!! كنت سأقولُ لها مَن يفعل ذلك معي -وقد حدث- أردّ عليه بالعربية، لكن جعلتني لا مبالاتُها أبتر الاسترسال.
2
ذهبتُ لمركز للفحص طبي. لم يكمل الطبيبُ دقيقتين رغم أنه كان مطلوبًا فحص مكانين. سجلتُ اعتراضي وتم تصعيد الأمر حتى مدير المركز الطبيب. يتحدث مثل مَنْ سبقوه من منظور تجاري بحت، مستغفلا إياي ببعض الكلمات الانجليزية. أضطرُ آسفة أن أرد عليه باستخدام كلمات انجليزية غير بسيطة وجمل كاملة. يبدأ في احترامي بينما يزداد ضيقي من نفسي. يسألني مُبتسمًا وقد هدأت نبرته عن عملي، أحاولُ أن أفكر في ترجمة وظيفتي لكن ترجمتها العربية المتوفرة ركيكة ومُبهمة. فأقولها كما هي بالانجليزية! أغادرُ المكانَ وأمشي مسافة طويلة لعلّي أجدُ مخرجًا لضيقي بينما أرسلُ لله دعوات كثيرة ورحمات (لها). كأني أعتذر.
3
تروقُ لي بعض المقتطفات والحكم المصحوبة بصور، لكن تُغضبُنِي الأخطاء اللغوية والإملائية والنحوية البسيطة والفادحة. كيف يحدث ذلك رغم أن النص المقتطَف منه يعتبر مُراجعَاً لغويًا؟! أحمدُ الله كثيرًا إن كانت الخلفية بلون واحد، فلن يتطلب مني التصحيح عملاً ذا شأن على برنامج تحرير الصور (الفوتوشوب). في اليوم العالمي للغة العربية، تنشر إحدى الصفحات المهتمة بترجمة مقتطفات علمية وطبية ونفسية إن أولئك المهتمون بالتصحيح اللغوي بعفوية لكل خطأ لغوي يرونه لديهم أحد أنواع الوسواس القهري!! أذكرُ أنني كنتُ أقول (مثلها): “يا حبذا”. لكنني لا أكاد أقولها الآن من كثرة السخرية التي تعرضتُ لها تعليقًا عليها. لستُ نابغة، إنما أعشق اللغة العربية، وأشعرُ بالأسى حين أرى أمارات الاستهانة بها. وأغضب من نفسي وأشعر بالخزي حتى يقشعر كل بدني إن أخطأتُ فيها حتى لو كنتُ أنا من اكتشف خطأي وليس أحدًا غيري.
أتمنى لو كان هناك تتبع مدوَّن للسخرية ولو مزاحًا ممن (تتفلت) من ألسنتهم كلمة غير دارجة في مقابل تبجيل مع من يرطن بلغة أخرى. في القاموس المحيط: الرَّطانَةُ، ويُكْسَرُ: الكلامُ بالأَعْجَمِيَّةِ. ورَطَنَ له وراطَنَه: كَلَّمَه بها. وتراطَنوا: تَكَلَّموا بها. وما رُطَّيْناكَ هذه؟ بالضم، وقد يُخَفَّفُ، أي: ما كَلامُكَ.
4
(هي)
بدأت تحفيظي بضع أجزاء قليلة من القرآن الكريم. وكانت تُعيدني للمراجعة، وتحدد موعدًا ثانيًا للتسميع لأنني -فقط- رفعتُ منصوبًا، أو نصبتُ مرفوعًا. كنتُ أتضايق واعترضتُ مرة بقول إنني لم أخطأ في التسميع ولم أنسَ. فابتسمت وأخذتني تحت جناحها، وشرحت لي العلاقة بين مكونات اللغة بتشبيهات معمارية بسيطة منطلقة من “المبنى والمعنى”. فأنهتْ الفصلَ الذي كان في ذهني ذي الأحد عشر عامًا بين النحو والمعنى حتى اتحدا. وصرتُ الآن لا يمكنني القراءة أو تلاوة القرآن الكريم دون التفكير في محل إعراب بعض الكلمات التي تستوقفني وتحتاج متخصصًا مثلها لإعرابها. فقد كان من هواياتها أن تُعرب آيات من القرآن والسور الصغيرة بالكامل مستخدمة أقلام ملوّنة.
إلى الملاكُ النائمُ هناك؛ مـَنْ رسمت لي حيوات أخرى بحواديت ترويها بالفصحى وكثير من الحب والأحضان والألوان “ويا حبذا”. من أطعمتني أسس النحو مع الحواديت وصواني الحلوى، كل عامٍ وأنتِ ترين مقعدك من الجنة، وقبرك روضه من رياضها، يا معلمتي المفضلة والأولى والأخيرة في اللغة العربية، يا أمّـي.
دعاء سمير
اقرأ أيضًا: