اللغة العربية تنافس حواء في العشق
“إنه يعشق اللغة العربية أكثر من عشقه حواء”
خرجت الكلمات من فمه كأمطار غزيرة على أرض عطشى، فأثملها الثناء وطاب لها التشبيه، وشعرت آنذاك أن اللغة العربية جياشة المشاعر، مرهفة الإحساس، تشعر بمن يهيم بها ويجري وراءها، وتدرك جيدا من يذوب عشقا بهواها، فتبعث رسائل غرام له مع عاشق من عشاقها .
ولا أزعم أن قصة حب اللغة العربية وليدة لحظة، بل إنها تمتد إلى سنوات دراستي المبكرة.
كان الأستاذ حمودة، مدرّس أول اللغة العربية، أول من روى الأرض وهيّأ التربة. كان في الخامسة والعشرين من عمره، كل شيء فيه ينم عن الحيوية والنشاط، حتى نظرته إلى التلاميذ، كانت نظرة الحالم بغد أفضل، عرفنا معه كيف نحبّ اللغة ونتذوق جمالها!
كان يجري مسابقة صباح كل سبت في قواعد اللغة العربية، يقسّمنا مجموعات، ويعطي كل مجموعة فقرات من كتاب القراءة والنصوص للإعراب، إن أخطأنا أصلح في ظرف وأدب ورقة وتلطّف، وإن أفلحنا نلنا الجوائز القيّمة. ترك في وجداننا أثرا لا يُمحى، ما زال الحديث عن هذا الأمر شائقا لا يُمل ، فمنه تعلّمنا معنى التنافس الشريف والتشجيع المثمر، لقد رفعنا أمتارا فوق أرض دراستنا .
أذكر أيضًا معلّم اللغة العربية في المرحلة الثانوية، أستاذنا الذي حباه الله حسا جماليا رائعا ولا سيّما في الشعر العربي، كان دائما ما يردد على مسامعنا عبارته المشهورة “ذوقوا اللغة العربية في الشعر ما أطيبها!”
وكان يغنّي لنا القصائد بلحن جميل، تبتكره موهبته الفذة. ومن منا ينكر مزايا التعبير الشعري في اللغة العربية فهي لغة مقبولة في السمع، يستريح إليها السامع، ويتلاقى فيها تعبير الحقيقة وتعبير المجاز على نحو لا يعهد له نظير في سائر اللغات كما قال مفكرنا الراحل عباس العقاد.
فالقصيدة الشعرية ليست تسلية، الأمر أكبر من هذا بكثير!
أحببتُ هذا الجمال اللغوي والشعري، ولم أكن أدرك وقتئذ أن هذا ما أكده الفيلسوف الإنجليزي روبين جورج الذي قال “تذوق الشعر وفهم لغته شرطان أساسيان لنمو الإنسان الناضج الذي يستطيع أن يستخدم عقله في استيعاب الظروف المحيطة، فالشعر ليس مجرّد هروب أو تسلية، بل وسيلة لمحافظة الإنسان على توازنه الانفعالي والفكري”.
فالمجد لكم أيها العلماء، أيها الباحثون، أيها المعلمون، أيها الدارسون، يا من تبذلون الجهد في تثقيف وتعليم غيركم لغتنا العربية .
جرجس نظير – كاتب وشاعر
اقرأ أيضًا: