المنطقة الحرة

ارقد فى سلام يا جدى

دينا ماهر

كنا نعلم فى بيتنا أن جدى لأمى “محمد صالح سراج الدين” كان موجهًا لمادة اللغة العربية، كانت أمى تحكى لى عن أبيها وغضبه العارم، إذا أخطأ أحد من أولاده فى النحو والصرف، أو فى النطق السليم، لم أر جدى لأنه توفى قبل أن أتم عامى الأول، لكن ظلت صورته المعلقة فى غرفة أمى حاضرة فى ذهنى.

كنت أُريه شهاداتى الدراسية وتفوقى فى مادة اللغة العربية، وأتخيل أن الصورة تبتسم لي، حين كانت تختارنى المعلمة، لأقرأ موضوع الإنشا أمام التلاميذ، كنت أتخيل جدى يقف أمامى ببذلته الرمادية الأنيقة يستمع لى، فأتغلب على خوفى وتوترى من الأعداد الكبيرة.

درست بمدرسة إسلامية تضع الدين الإسلامى واللغة العربية ضمن أولوياتها، أحببت اللغة العربية منذ الصغر، شاء القدر أن تصبح كل معلمات اللغة العربية من أكثر المعلمات لطفًا على الإطلاق.

أتذكرهن واحدة واحدة، لكن إذا قررت أن أختار إحداهن لأكتب عنها اليوم فهى “ميس هبة” بالتأكيد كانت “ميس هبة” تشبه الممثلة الشابة فى التسعينيات “جيهان نصر” لكن ذلك كان أمرًا جانبيًا مقارنة بقدرتها على إيصال المعلومة، وإتقانها للغة العربية وشغفها وهى تتحدث عن الشعر العربي.

كانت تحب القصائد التى تغنيها أم كلثوم، وهى أول من نبهنى أن أم كلثوم ارتكبت خطأ فادحا فى قصيدة “أراك عصى الدمع” لأبى فراس الحمدانى، حين استبدلت بلى بنعم للرد على سؤال منفى، فنعم كرد على سؤال منفى تعنى لا، وبلى تعنى نعم.

كان من ضمن مقررات المدرسة فى المرحلة الابتدائية أن ندرس تفسير القرآن الكريم، ونظرًا لاهتمامى الشديد بالقواعد النحوية للغة، قرر ناظر المدرسة أن يعطينى دروسًا فى النحو والصرف، فكنت أعرب الآيات، فى أحد المرات سألت “ميس هبة” عن إعراب كلمة فى أحد الآيات فى قوله تعالى “يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِى الشَّكُورُ”.

سألتها لماذا محاريب ليست مكسورة بالكسرة رغم أنها اسم مجرور؟ قرأت معلمتى الآية مرات ثم أخبرتنى أن أنتظر للغد؛ كى تحصل على جواب سليم، فهى لا تعرف القاعدة.

أصبت بالإحباط نظرًا لشعورى الدائم أن “ميس هبة” معلمة اللغة العربية تعرف كل كبيرة وصغيرة فى اللغة، لكننى أدركت يومها أن لا أحد فوق اللغة، وتعلمت أيضًا أنه ليس عيبًا أو نقصا أن أعترف بجهلى بأمر ما، لكن العيب أن أدعى العلم.

جاءت المعلمة فى اليوم التالي، لتشرح لى قاعدة الممنوع من الصرف، وأن محاريب وتماثيل على وزن مفاعيل، وكل ما هو على وزن مفاعيل ممنوع من الصرف، وبهذا يصبح إعراب محاريب اسم مجرور بالفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف.

ذهبت يومها للبيت أبشر أمى بمعرفة قاعدة جديدة، وأخبر صورة جدى المعلقة أننى رغم صغر سني، وبالرغم من أن وزارة التربية والتعليم لا تطلب منى سوى معرفة المبتدأ والخبر فى هذه السن الصغيرة، إلا أننى أعرف ما هو أكثر.

فى أحد الأيام رأت أمى “ميس هبة لتخبرها “الميس” أنها طالما أرادت أن تراها، لتشكرها على تربيتى ونجاحى الدراسى.

دُهشت أمى وظنت فى بداية الأمر أن “ميس هبة” تسخر منها، فأمى كانت تعلم أننى منذ صغرى كارهة للنظام الصارم والمذاكرة، ومنذ ذلك اليوم وأمى تخبرنى أن جدى كان سيفخر بى حتمًا، حين يعلم أن إحدى حفيداته تحب اللغة العربية كل هذا الحب، أكبر وتلتصق كل نجاحاتى باللغة العربية فأشعر بصورة جدى تبتسم لى بين حين وآخر.

أدهش حين أجد أطفال عائلتى لا يحبون اللغة العربية ويشعرون بصعوبتها ويفضلون اللغات الأخرى، فأحزن وأتخيل جدى يحزن فى قبره، لكن ارقد فى سلام يا جدى فأنا أعدك لو أنجبت أطفالًا سأجعلهم يحبون اللغة العربية.

اقرأ ايضًا:

الأستاذ هاني وردة

وصرخت ميس صافيناز

رسائل الغياب

لماذا لم تعودي يا ميس شيرين؟ 

المدينة البعيدة

كساحر خفيف اليد

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى