معلمي الفلسطيني.. علمت حقًا أن «الحماقة أعيت من يداويها»
«جميلة، نظيفة، متطورة».
الجملة الأكثر شهرة داخل المدارس المصرية، والتي لا تمحى من ذاكرة أي منّا مهما كبر أو حصل على شهادات، سنوات كثيرة تأتي على مخيلتك كشريط سينمائي يعرض أمامك، حين تسأل عن ذكريات طفولتك، هذه المرة الحديث عن معلمي اللغة العربية الأكثر تأثيرًا..
أتذكره ببنيته الضخمة، ولحيته المتوسطة، وخفّة ظله، خصوصا حين كان يردد مقولة المتنبي «لكل داء دواءٌ يستطاب به.. إلا الحماقة أعيت من يداويها» في إشارة منه لمن لم يحضّر واجبه المدرسي. إنه أستاذ محمد عيد مدرس اللغة العربية للصف الرابع الابتدائي، فلسطيني الجنسية، مصري الطبع جدًا.
وجد ضالته في التدريس بمصر في فترة التسعينيات، للحق لم أكن أعلم حينها أنها مقولة المتنبي، كان كل همي ألا تقال لي.
قبل موعد الفسحة المعتادة، قابلته في طريقي إلى الفناء، عابس الوجه، قال فجأة: «درجات الامتحان ظهرت وإنتيِ أسوأ الجميع»، لم أتناول شيئًا من طعامي وظللت أبكي، متسائلة كيف ولماذا؟ ثم أعاود بكائي، إلى أن انتهت الفسحة، وها ستبدأ حصته، لم أتمالك نفسي، ثم كانت المفاجأة حين رأيته يبتسم لي، ويُعلمني أني حصلت على الدرجات النهائية في امتحان اللغة العربية، لهذا الشهر!
لا أنكر كيف أسهم في محبتي لهذه اللغة بخفة ظله، رحمك الله يا معلمي، حزنت كثيرًا على فقدانك لكن لا تقلق على قدر براءة طفولتي حينها، على قدر غفراني لما فعلته بي من بكاء مستمر، فما زلت كما كنت تلقبني بـ«سوسة»!
………………..
«كريستي» هكذا كان يناديني، وهو أول من أخبرني معنى اسمي، فلم أكن أعلمه حين كنت في المرحلة الإعدادية، ذاك الرجل الثلاثيني صاحب الملامح الصعيدية الذي كان يفضل الإمضاء باسم مستعار «أندلسي»، له الفضل في معرفتي بحضارة بلاد الأندلس العظيمة، لم يكن يبخل على أحد بتعلم الخط العربي، كان يحثّنا دائمًا على ذلك، إضافة للنحو، والبلاغة، متحدثًا بالأشعار تارة للتحفيز وأخرى للتخويف.
ثم أبلغنا قائلًا: «سوق الخضار هو أكثر الأماكن ممارسة للبلاغة من تشبيه واستعارة مكنية، وغيرها من الصيغ المختلفة للبلاغة»، ضحك الجميع، واستطرد معلمي العجوز، في شرح الدروس بهذه الأمثلة، حقًا لم تذهب هذه الكلمات يومًا عن ذاكرتي، كان يجيد شرح حتى أصعب القواعد، بأبسط الطرق، أتذكر حين هاتفته لأخبره بدرجات امتحان اللغة العربية في المرحلة الأولى للثانوية العامة بإجمالي 29.5 درجة من 30، حين قال: «أبوكي ما دبحش عجل؟»
نعم كنت محظوظة بمعلّمي اللغة العربية في أغلب مراحل التعليم، لم يكن أسوأهم سوى ذاك الرجل الذي لم تعد لي قدرة على تذكّره، كان منتدبا من كلية دار علوم للتدريس بكلية الإعلام، ومرة أراد إلغا درجاتي لمجرد أني سألت عن الفرق بين كلمة أُمّي كأن يقال (فلان أمي أي جاهل)، وبين أممي (من الأمم) ولم يكن يعرف الإجابة، فأدركت حينها كيف كان له نصيب الأسد من مقولة المتنبي: « لكل داء دواءٌ يستطاب به.. إلا الحماقة أعيت من يداويها» لكن لعله قد تداوى الآن!
كرستينا عياد – صحفية
اقرأ ايضًا: