سلامٌ على إبراهيم
فصلان بدأت بينهما قصتي مع اللغة، خريف.. وربيع
ليسا فصلين من فصول العام، بل هما الفصل الثالث والرابع الابتدائي، وما “خريف” و”ربيع” إلا مدرسان سودانيان تناوبا تدريسنا اللغة العربية، كنت حينها طالبا في “الرياض” عاصمة الدولة السعودية، وكانت مدرستي الحكومية تسمى “تحفيظ القرآن الكريم”، وهكذا، شربت اللغة وقواعدها وبلاغتها من معينها الأم وقاموسها الأشمل وناموسها الأكبر.
سقاني الأستاذ “خريف” قطرات النحو الأولى، وعدَّل لساني ليسير على صراط اللغة القويم، ثم رأى فيَّ الأستاذ “ربيع” نموذجا للطالب النابغ، ولم يدهش عندما نظمت أولى أبياتي وأنا في الصف الرابع الابتدائي، كان يحلو له أن يلقبني بـ “مصيبة من مصائب الزمن”، شارحا لي أن المصيبة هي المكروه يحل بالمرء، وأن الزمان زمان جهل، وما من مكروه يصيب الجهل سوى نور العلم وألق الموهبة، ولذا؛ فأنا المصيبة تحل بهذا الزمن الرديء.
رغم مقامي بالسعودية، إلا إن نافذة فُتحت في الأفق أمامي رأيت خلالها عالما من الفنون يدعوني لأقتحمه، وأدركت حينها أن الفن هو مآلي، والخيال هو الرفيق المخلص.
ارتديت ثقتي بموهبتي وانطلقت أكتب القصائد، وحين انتقلت مع أسرتي من الرياض للمدينة المنورة في المرحلة الإعدادية، لازمتني عباءة الثقة، وكلما نمَوْت اتسعت وازدانت، حتى أتى الأستاذ “إبراهيم شعث”، ذلك المدرس الأردني شديد الشبه بأبي، والذي خلع عني عباءة الشعر، وأعادها لي حلة من إستبرق.
أهداني الأستاذ إبراهيم كتابا عن عروض الشعر التي لم أتقن حفظها حتى اليوم، وكنت كلما كتبت موضوع تعبير طلب مني أن أذهب لمدير المرسة لأقرأه له، إذ إنني انتهجت نهجا خاصا بي، وهو أن أكتب المواضيع كمقامات القرن الرابع الهجري، وأثار ذلك إعجاب الأستاذ إبراهيم، قبل أن يثار غضبه فيما بعد.
كنت قد انتهجت نهجا آخر في كتابة مواضيع التعبير في اختبارات نصف العام وآخره، وهي أن أنظم بعض الأبيات عن الموضوع، فكانت ورقة إجابتي تعرف حتى وإن نزعوا عنها اسمي.
أتى موضوع التعبير في اختبار نهاية الصف الثالث الإعدادي – أو المتوسط كما يدعى في السعودية – عن أهوال يوم القيامة، ثم جاءني الأستاذ إبراهيم في بداية العام التالي، وقال لي: “إن ظللت تكتب الشعر وأنت مهموم بالتشبيه والقافية فلن تصبح شاعرا، فالبلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال”، وانطلق يناقشني في بيت شعر كنت قد نظمته في الاختبار أحاول فيه إعادة صياغة حديث [تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق، حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمهم العرق إلجاما]، وبحثت عن مثال لسائل تتوزع فيه الأشياء بلا نظام، فمنها ما ينغمس منه جزء ومنها ما يغرق بأكمله، ثم حدث أن لمعت في رأسي صورة لم أراجعها، فانطلقت أكتب:
والناس في العرق كاللحم في المرق
أرادني الأستاذ إبراهيم شاعرا، ولكنني خذلته، مازلت أكتب الشعر، ولكنني لم أجرؤ أن ألقب نفسي بالشاعر، وظللت مخلصا للكتابة، حتى بعد أن تعرضت لصدمتي الأولى في المرحلة الثانوية، عندما رفض مدرس آخر – لا أذكر اسمه، تماما كما يُسقط التاريخ من ذاكرته أنصاف الجبابرة – قصةً كنت قد تقدمت بها لمسابقة المدارس الثانوية، زاعما أنه على يقين أنني لست بالكاتب الحقيقي، وأنني سرقتها من مكان ما لكاتب شهير لا يعرفه، ولكنه يعرف أن تلميذا في عامه الخامس عشر لن يكتب نصا كهذا يتشظى فيه السرد وتتداخل الأزمنة، كنا في بداية التسعينات وكنت في نهاية الطفولة، وأعرف ما أريده الآن من عالم الفن أكثر من سواه.. إنها الكتابة.
تمددت الأحلام، واقتحمتُ تلك النافذة التي أُشرعت لي طفلا، وظللت طفلا يتنازعه التمثيل والإخراج والمسرح والسينما والمسلسلات والأفلام، ولكن وحدها الدراما ظلت البستان الأوسع والجامع لكل ما سبق، بستان تنمو عجائبه من نبع الكتابة، وكتابة تنشأ من رحم لغة نُفخت فيها الروح فتَشارَكْنا الحياة، وكلما وُلِدت لنا فكرة، راحت تُقرئ السلام لإبراهيم الذي وفَّى، ولربيعٍ وخريفٍ منحاها ألوانها الأولى.
تامر عبد الحميد – سيناريست ومخرج
اقرأ ايضًا: