مع مين نتسلى ونتعلم؟ أستاذنا أيمن
لا أعتقد أن أحدا سيتذكر الكرتون الظريف سوى مواليد الثمانينيات من أمثالي “أيمن أستاذنا الظريف”، الذى كان يعرض على التليفزيون المصرى فى هذا الزمن البعيد الرائق، عرائس ماريونيت تشبه عرائس كارتون عالم سمسم الشهير بعد ذلك.
كتب له الحلقات يعقوب الشارونى الرائع، وكان يقوم بالأداء الصوتي، محمود عامر، الذى لا أزال أتذكر رنّة صوته الرخيمة، وهو يعلّم الأطفال بطريقة مسلية، سابقة لعصرها، بصفته الأستاذ أيمن.
أتذكر التتر الافتتاحى الموسيقى الجميل “مع مين نعرف ونفهم .. أستاذنا أيمن.. مع مين نتسلى ونتعلم.. أستاذنا أيمن”.
الأستاذ أيمن فى الكارتون كان ساحرا، يصحب تلاميذه عبر السبورة لعوالم أخرى، يتابعون الحيوانات على الطبيعة فى الغابة، أو إلى الفضاء أو عالم البحار، كل يوميا يعلّم تلاميذه أشياء جديدة، تماما كما كان يفعل أستاذ آخر يحمل نفس الاسم، أستاذى فى الصف الثالث الابتدائى أستاذ “أيمن” مدرس اللغة العربية.
كنت طفلة هادئة فى المرحلة الابتدائية “غلبانة” كما يقول الكتاب، غير اجتماعية على الإطلاق، الأمر الذى ربما يكون صادما لمن يعرفونى، بعد أن تحوّلت إلى النقيض تماما اليوم، لكن هذا التحول ربما كان سببه الأول هذا الأستاذ العزيز، الذى بالتأكيد لا يذكر تأثيره فى حياة طفلة مسكينة مترددة ترتدى النظارات الطبية الوردية، وتجلس صامتى فى ركن منزوٍ.
كنت أتغيّب كثيرا جدا لأسباب لا تعنينا اليوم فى شىء، الأمر الذى كان يؤثر بالتأكيد على مستواى الدراسى فى عصر لم تكن فيه الدروس الخصوصية أساسية كاليوم، وكانت هناك ميس غادة، معلّمة الدراسات، التى قررت أن تدمر لى ما تبقى من نفسيتى باضطهادها ومعاملتها السيئة، واتهامى الدائم بأننى فاشلة و”بليدة”.
على عكسها، كان هناك الأستاذ أيمن، الذى كان يثق فىّ لسبب أو لآخر، يشجعنى بشكل دائم، يعهد إلىّ بالكتابة على السبورة، وقراءة الدرس بصوت عالٍ، يخبرنى أننى أقرأ بشكل سليم جدا، لا أخطئ فى نطق الحروف والكلمات، كان خطى سيئا لكنه كان يخبرنى بأنه جميل، كان يقرأ مواضيع التعبير التى أكتبها بصوت عال، ويقول أفضل موضوع تعبير اليوم، يضع له علامة 10/10 وبجوارها نجمة، كنتُ نجمة فى حصة اللغة العربية، رغم أننى كنتُ ثقبا أسود فى باقى الحصص!
كان الأستاذ أيمن يشجّعنى على القراءة، ويحضر لى مجلات ميكى وماجد، يقول ستصبحين يوما صحفية أو كاتبة، أسلوبك جميل فى هذه السن، لا أعرف ما الذى رآه فىّ، يبدو أنه كان ملاكى الحارس، فعلا، أو الملاك الحارس للفصل كله، الأطفال كلهم كانوا يحبونه، رغم تلويحه بالعصا الخضراء القصيرة التى كان يحملها دوما.
يسأل أستاذ أيمن، من نسى عمل الواجب اليوم؟ أخرج منكّسة الرأس، أقف فى صف المذنبين الذين يتلقون عقابهم بضربة خفيفة على اليد، لم تهمنى الضربات قدر حزنى لأنني خيبت ظنه فى، ينظر لى بدهشة ويقول “مش ممكن”، أقول بصوتى الخافت أننى أتممت عمل الواجب فعلا، لكنى نمت بجوار الكتاب على السرير، واستيقظت دون أن أتذكر وضعه فى الحقيبة.
يصدّقنى أستاذ أيمن رغم أننى لم أتوقع هذا. يقول كلمة واحدة: أصدقك، ويتركنى دون عقاب، أندهش للحظة وأعود إلى مقعدى، وداخلى شعور أننى مهمة وشاطرة ومميّزة.
أجتهد أكثر فى الدراسة رغم كل الظروف، أغرق فى حب اللغة العربية، والقراءة، ثم الكتابة بعد ذلك، تماما كما توقع أستاذى.
هؤلاء الأعزاء يرحلون دوما، انتقل أستاذ أيمن من مدرستى بانتهاء العام الدراسى، لكنى لم أنسه أبدا، ما زلت أتذكر زيارته للمدرسة فى العام الذى يليه، وكيف اندفع التلاميذ إلى الفناء لتحيته واحتضانه، كان واقفا وسطهم يبتسم، نحيلا، ذا شعر أسود فاحم وشارب مثل شارب أبى، يحاول احتضانهم جميعا، أما أنا فقد ظللت فى مكانى أنظر إليه من بعيد، أخجل إن تقدمت ألا يتذكرنى.
أحمل فى يدى أول ما كتبته فى حياتى، قصصا قصيرة طفولية لم يصدّق أحد أننى من كتبها، ما زلت أذكر عناوينها ورسومات غلاف كل قصة رسمتها بيدى، “سونيا والثعبان- أين اختفت الطعمية؟ – الأمير الأزرق- هالة والغابة المسحورة”.
أريد أن أريه القصص، لكنه يرحل سريعا دون أن تسنح لى الفرصة، أكتفى بسعادتى لرؤيته، وإصرارى على تحقيق ما رآه فىّ، فى عقلى تتردد أغنية الكارتون التى ما زلت أحفظها عن ظهر قلب “أيمن وحده ومفيش غيره اللى يخلى الحصة جميلة.. أستاذنا أيمن”.
نورا ناجي- صحفية وروائية
اقرأ ايضًا: