المنطقة الحرة

«بحر بن بحر الجاحظ».. ولا ترض بما دون النجوم

حكاياتي مع معلّمي اللغة العربية بدأت من الصف الرابع الابتدائي، ولن تنقطع، طبعا. أحفظ أسماءهم وأذكر ملامحهم بدقّة. ولعلّ ما يجعلها حكايات مختلفة أنّني من محبّي المادة ومن المتميّزين فيها، حتّى أنّي أفكّر أحيانا: “لو كنت اخترت آداب في الثانوي بدل العلوم وواصلت في اختصاص لغة وآداب عربيّة في الجامعة، أفضل.” وربّما لو وجدت سبيلا، سأعود لدراسة العربية كتخصّص ثاني. من يدري؟

الأمر بدأ مع “القدر العجيبة” و”آنستي منيرة”. كانت معلّمة مميّزة جدا ببشرتها البيضاء وشعرها المائل للحمرة، هذه التركيبة التي لم تعدها عيون طفلة ريفية أغلب من حولها لوّحت بشرتهم الشمس. أصابع يديها التي تعاني من إعاقة لم تمنعها من إمساك أصابع الطباشير والكتابة كأجمل ما يكون بل واستعمال العصا معنا إذا ما استوجب الأمر. و”القدر العجيبة”، أوّل قصّة كتبتها وأخرجتها ورسمت صورها ووضعت اسمي على غلافها وحدّدت لها ثمنا أيضا. كتبتها على أوراق اقتطعتها من كرّاس الرسم وسطرتها بقلم الرصاص. ثمّ جمّعت أوراقها بالإبرة والخيط لتكون أقرب ما يكون للقصص التي نشتريها.

كلّفتنا “آنستي منيرة” بذلك، وأنجزت بكلّ شغف وبحرص بالغ على الفواصل والنقاط والظفرين والنقطتين، غرسته هي فيّ ولا يزال يلازمني لليوم. عرفت بعد زمن أنها قالت لأبي:”إذا وجدت ابنتك رعاية سيكون لها شأن في الكتابة.” لم أتوقّف عن كتابة القصص ولا أزال أعدني بشأن بالكتابة. منيرة ثابت، معلّمة العربية التي زرعت أملا أقتات عليه.

“كيشو”، أكتبها بخجل كبير. فهذا اللقب أو الكنية التي يطلقها تلاميذ الإعداديّة على أستاذ اللغة العربية الذي درّسنا في الصف السابع والثامن أيضا. كنّا في أسبوع التعارف الأوّل، طلبة صغارا حديثي عهد بالإعدادي، حفّظنا الطلبة الأقدم هذا الاسم، والحقيقة أنّ “كمال دريرة” كان اسم الأستاذ. وقد استنبطوا كنيته من أوّل حرف في اسمه وعيب في النطق ناتج عن غياب أسنانه الأربعة السفلى فقد كان كبير السن. حين يقرأ ينزلق لسانه في الفراغ في صفّ أسنانه فتحدث “كشكشة” ويتناثر ريقه وإذا كان قريبا من طاولتك سينتشر على كتبك حتما. وكأغلب النجباء كنت أجلس في أول صفّ الطاولات قريبة دائما من مكتبه وهكذا نابني من “تفتفته” الكثير، لكنّي لم أهتم أبدا. كنت أحرص فقط على أن أكون أوّل من يواصل قراءة النص بعد أن ينهي الفقرة الأولى منه.

أحرص أيضا على قراءة عملي المنزلي: “التقديم المادي”، “الموضوع”، “الوحدات” وإجابة أسئلته كلّها في كلّ الحصص. أضف إليه، أنّي كنت أتراهن وزملائي على العلامة الكاملة في امتحان النحو والصرف. كانوا يقولون دائما:” سيمنحك العشرين وإن لم تحصّليها، يحبّك.” وكانت العشرين، العلامة الكاملة،  في الجيب، دائمة الحضور في ورقة الأعداد. كمال دريرة، الأستاذ الذي علّمني أن أراهن عليّ.

الأستاذة تركيّة، بل عاشت في تركيا.. لا بل أصولها تركيّة. لم أوفّق لليوم في تحديد الأمر، المهم أنّها حدثتنا عن شيء ما يربط عائلتها بتركيا. “ثريا عبيد تمر”، لا أزال أذكر شعرها الكثيف المنطلق على كتفيها وعيونها الواسعة وحبّ الشباب على وجهها. أستاذة شابة، درّستني لسنتين متتاليتين في الثانوي: الأولى والثانية. أدين لها بأمور ثلاثة: المحاججة والبحث والنقد.

جعلت حصّة العربية، شرح النصوص خاصة، حصّة نقاش يحتدم أحيانا. أذكر النقاشات حول شعر نزار قباني وأبي القاسم الشابي، نصوص الجاحظ ومقامات الهمذاني. أذكرني “غاطسة” في الكتب في المكتبة العمومية أقرأ وأنقل لإنجاز البحث الذي كلفتنا به. بحث يسبق كلّ محور ندرسه في الأدب والشعر، كنت أصرف له وقتا على حساب بقيّة المواد. وكان جهدي يثمر، والثمرة إعجابها وتقديرها لعملي وعرضه على زملائها في قاعة الأساتذة واحتفاظها ببعضه حينها. الكلفة معها شبه مرفوعة، كونها قريبة منا في السن، عشرينية ونحن مقبلون على العشرين بكلّ الطاقة. كثيرا ما تحدّيت ما تلزمنا به من قواعد خاصّة في قسم النقد من امتحان “المقال”. كتبت أنّ طه حسين مملّ ورتيبة كتابته. كتبت أنّ نزار “نسونجي”، لكنّي لا أنسى إعجابها حين كتبت عن الجاحظ: “بحر بن بحر هذا عظيم” ولا أنسى على وجه الخصوص ما كتبته لي في “كرّاس الذكريات”:” لا ترضِ بما دون النجوم!”. ثريا تمر، الأستاذة التي خاطبت الأنثى في داخلي وعلمتني أن أشمخ.

أنيق، أنيق جدا وهادئ.. هادئ جدا: سي ناجح عبد الهادي. الشخصية المناسبة تماما لتدريس شعر الغزل. حين أذكره تحضرني حصريا الحصص التي درسنا فيها قصائد نزار قباني. في نهاية كلّ حصة يسألنا ذات السؤال:” ما رأيكم في القصيدة؟” فيصمت الجميع. لا أحد يكترث أصلا، فنحن “سنة ثالثة علوم تجريبية، ما لنا والعربية”.

غير أنّي لا أنفك في كلّ حصة أرفع إصبعي فيعطيني الكلمة لأقول في كلّ مرة ذات الشيء: “القصيدة جميلة طبعا”. يمنحني شرف اختتام الحصة بهذا لكنّه يزعجني جدا في بدايتها إذ يهمل إصبعي المرفوع طلبا للإذن بقراءة جزء من القصيدة. يغيظني إذ يقرأ هو كلّ الأبيات، وأنا التي أرغب في القراءة بشدّة، كطالبة اختصاصها العلوم تجد في حصة العربية الوحيدة متنفسا. كظمت غيظي طويلا لكنّي يوم درسنا قصيدة “القصيدة البحرية” لنزار قباني، انفجرت. فما أن أنهى قوله: ” لو أني، لو أني بحار.. لو أحدٌ يمنحني زورق.. أرسيت قلوعي كلّ مساء”، حتى اندفعت مختتمة القصيد:” في مرفأ عينيك الأزرق” لينفجر هو وكلّ الفصل ضحكا. سي ناجح عبد الهادي، الأستاذ الذي كان قلبا وقالبا متناسبا مع صورة “أستاذ اللغة العربية” في ذهني، “نزاري القباني” ربّما.

نهى سعداوي – كاتبة تونسية

اقرأ ايضًا:

الأستاذ هاني وردة

وصرخت ميس صافيناز

رسائل الغياب

لماذا لم تعودي يا ميس شيرين؟ 

المدينة البعيدة

كساحر خفيف اليد

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى