عادل وسعاد في حديقة روما
الاستعداد للسفر على قدم وساق. الملابس الصيفية والشتوية رتّبت في حقائب السفر، أغطية الفراش وبعض مفارش المائدة رصت في علب من الكرتون.
“لا تنس وضع كتاب اللغة العربية لأولى ابتدائي في الحقائب التي ستسافر معنا، إياك ووضعها مع العفش الذي سيلحقنا، فقد يتأخّر عدّة أشهر”، تشدّد أمي على أبي.
ثلاثة أيام ونرحل إلى الإسكندرية ومنها نركب الباخرة إلى فينيسيا بإيطاليا، ثم نستقل القطار إلى روما حيث يبدأ والدي مهمة من المفترض أن تدوم ثلاث سنوات في مكتب جامعة الدول العربية هناك.
سوف ألتحق بمدرسة فرنسية لأكمل تعليمي باللغة التي بدأت بها في مصر. كتاب العربي سوف يدرّسه لي أبي وأمي على الرغم من ضعف مستوى اللغة العربية عندها. هي مصرية تماما، ولم تقطن في أي بلد أجنبي، لكن قبل ثورة 1952 لم تكن المدارس الأجنبية المسيحية تدرّس اللغة العربية أو الدين الإسلامي. لتعويض هذا النقص، استعان جدي بشيخ أزهري ليلقنها العربي والدين في المنزل.
“كان ما إن يصل منزلنا حتى نطعمه، ومن شراهته كان يغفو بعد الغداء مباشرة، فنتركه أنا وخالك يأخذ كفايته من النوم، ونلبس عمته والجبة التي خلعها عند دخوله ونلهو من حوله حتى يفيق، ويكون ميعاد الدرس قد شارف على الانتهاء، فلم أستوعب الكثير من قواعد اللغة”، تقول والدتي عندما أستغرب غلطاتها الإملائية.
وصلنا روما في صيف عام 1962، زمن كان فيه الحاسب الألي والإنترنت اختراعين من محض الخيال العلمي. لا توجد قنوات فضائية نتابع من خلالها برامج عربية. للاستماع لإذاعة مصر، كنا نُخرج “إيريال” الراديو ونذهب إلى الشرفة لنلتقط على الموجة القصيرة إذاعة مصر، إن حالفنا الحظ.
يخشى والدي أن تنسيني الغربة لغتي الأم. “قليل الأصل فقط من ينسى لغة بلده. هل تريدين أن تكوني مثل السفهاء الذين يتباهون بنسيان العربية ما إن يسافروا إلى الخارج معتقدين أنهم بذلك قد ارتقوا اجتماعيا لتشبههم بالأجانب؟”، تسألني أمي مستنكرة تفضيلي اللعب على حصة العربي بعد عودتي من يوم طويل في المدرسة.
تفتح الكتاب ونقرأ سويا “عادل وسعاد في الحديقة”. الكتاب غلافه من ورق سميك داكن أشبه بورق تغليف اللحم آنذاك وصفحاته ورسوماته بدائية، ألوانها باهتة، على النقيض تماما من كتب المدرسة الأجنبية بأغلفتها المصنوعة من كرتون صلب ألوانه الزاهية الحمراء والخضراء تلمع، فتداعب أعين الأطفال وتجذبهم ومن الصفحات البيضاء ناعمة الملمس ذات الرسومات الصور الفوتوغرافية الدقيقة والرسومات المبهجة.
على الرغم من ذلك التناقض، أحببت عادل وسعاد، فكانا صديقي المصريين وأنا طفلة وحيدة في الغربة. حتى الآن وبعد مرور عقود عديدة ورغم بدائية الكتاب والدرس، ما زلت ممتنة لهذين الطفلين.. ولوالدي.
لو لم يسافر عادل وسعاد معنا لإيطاليا لكنت قد نسيت العربية التي كنت قد بدأت بالكاد أتعلّمها، ومن المحتمل أن يكون مصيري الإعفاء من تعلم لغتي الأم عند العودة إلى مصر، مثلما كان يستثنى بعض أطفال المصريين الوافدين من الخارج.
تكرّرت مهمات أبي وظللنا نحمل معنا كتب المنهج المصري أينما ذهبنا.
في مرحلة الدراسة الإعدادية والثانوية، استعان والدي بزميل له عراقي الجنسية ضالع في اللغة العربية ليعلمني أصولها. كان يعشق الشعر، خصوصا قصائد المتنبي وهجاءه كافور الإخشيدي. وكنت أهوى الشعر مثله، فكنا نضع كتب المنهج جانبا ونقرأ لفطاحل الشعر العربي ونحلّل مواطن البلاغة عندهم.
نهم القراءة لدي جعلني أقرأ فطاحل الأدب العربي في سن مبكرة. حقائبي عند العودة من العطلة الصيفية في مصر، مليئة بالروايات والقصص. نجيب محفوظ على رأس القائمة ولا يزال يحتل المرتبة الأولى لديّ حتى اليوم.
البُعد عن القالب التقليدي لتعلّم اللغة ودخولها قلبي عن طريق أحلى ما فيها وهو الشعر بموسيقاه وصوره الجمالية، حجب عني النفور الذي يصيب الكثيرين من أي لغة تعلّموها بالطريقة التقليدية الصارمة المتبعة في مدارسنا.
عندما عدت إلى مصر، وبدأت البحث عن وظيفة في الصحافة، وهو حلمي منذ الطفولة، اتجهت إلى الوكالات الأجنبية لمساحة الحرية التي تتمتع بها. لكني أجزم أنه لولا معرفتي باللغة العربية لما كانت المؤسسات الأوروبية قد قبلت توظيفي، فما الذي يميزني عن أي أجنبي من نفس بلد المؤسسة حتى يفضلوني عليه، سوى معرفتي بلغة المنطقة التي سأعمل بها.
كلّما تقدم بعد ذلك شخص للعمل معنا، ورُفض لأنه لا يتقن العربية، كنت أقول “شكرا يا عادل، شكرا يا سعاد”.
الكاتبة الصحفية لمياء راضي
اقرأ ايضًا: