“حمالة بنطلون” هدية للفائقين فى اللغة العربية!
كانت قرية أبنود في مطلع الأربعينيات بها مدرسة واحدة فقط، وكانت تلك المدرسة عبارة عن غرفة واحدة فقط، ولم يكن بها سنوات دراسية، لكنها كانت إلزامية.
الكل يدرس نفس الشيء، كل أبناء القرية يجلسون في نفس الغرفة، ويتلقُّون نفس التعليم، فقد كانت أشبه بالكتاتيب؛ لذلك لم يذهب إليها “عبد الرحمن” سوى يوم واحد فقط واحد ثم رفض أن يذهب إليها مرة ثانية؛ لأن حنينه إلى الغيط والحقول والبراح كان يجعله يشعر بأنه في سجن -على حد تعبيره- لكنه ما زال يذكر حتى الآن الرجل الذي أتى على الحمار -في أثناء وجوده في المدرسة- يحمل البيض والعيش ليقوم بتوزيع “الوجبة” على التلاميذ.
لكن بمجرد أن وطئت قدم “عبد الرحمن” مدينة قنا، وقبل أن يتطلع إلى وجه والده، أخذه من يده، وزجَّ به إلى مدرسة صغيرة بجوار محطة القطار، قبل أن يشتري له ملابس المدرسة التي كانت عبارة عن بنطلون شورت وقميص وطربوش.
كانت هذه المدرسة ذات أعمدة خشبية، وأسطح خشبية تماما كتلك الأسطح الخشبية للركاب على أرصفة القطارات، كأن المدرسة نُصبت مؤقتًا للاجئين طُردوا من أرضهم، وعند عودتهم سوف تُفكّ تلك الأعمدة والأسقف الموجودة عليها ولن يصبح للمدرسة أثر.
المدرسة كانت تهتزّ مع مرور كل قطار، وكان جرس الحصص يختلط مع جرس المحطة، فلا تعرف أيّ الجرسين لنهاية الحصة، وأيهما لقيام القطارات.
وكان التلاميذ يجلسون في الفصول كأنهم على سَفَر، تهتزّ “التختة” من تحتهم كأنهم في قطار الدرجة الثالثة وعلى كراسيّه الخشبية ذات الألواح المستطيلة القاسية التي تظل تهتزّ وتكتشف حين تغادر القطار أن مؤخرتك صارت شرائح وقُسِّمت إلى مستطيلات بالعدل والقسطاس.
كان “عبد الرحمن الأبنودي” قادما للتوّ من القرية، ولم يتخلص من زمن الفرجة ولم يكن قد صعد رصيف محطة أبنود إلا يوم مجيئه، فقد كان فى أثناء رعي الغنم حين يرى القطار مقبلا يجري إلى المزلقان ويمتطيه ويلهو به جيئة، وذهابًا، كأنه مرجيحة؛ لذلك دفع نصف القرش -مصروفه اليومي بالكامل- لزميله الذي يجلس بجوار الشباك حتى يجلس مكانه ليطل على المحطة، ويرى أحشاءها من الداخل طوال عام دراسي كامل قضاه في مدرسة المحطة التي لا يذكر أنه تعلَّم فيها شيئًا حتى تركها.
ويعلِّق الخال الأبنودي على تلك الفترة بقوله: العجيب في الأمر أننى لا أذكر مدرِّسًا واحدًا من مدرستي أو درسًا واحدًا تعاطيته، لا أذكر زميلًا واحدًا على الرغم من طول العام الدراسي.
ويواصل الخال حديثه: إنها كانت حلمًا؛ فلقد ذهبت منذ سنوات قليلة لأبحث عن هذه المدرسة فلم أجدْها، بل إنني حاولت تحديد مكانها فلم أستطع؛ إذ إن محطة قنا أُعيد بناؤها فتغيرت تضاريسها تبعًا لذلك، ولم أقدر على تحديد “مطارح” الرؤية القديمة التي استمتعت بها لعام كامل نظيرنصف قرش اشتريت به المكان من تلميذ مثلي!
لكن حين ذهب “عبد الرحمن” إلى مدرسة “سيدي عبد الرحيم الابتدائية” اكتشف أنه ليس في حاجة إلى كتاب المطالعة، فقد حفظه عن ظهر قلب، وكان ذلك بفضل أستاذ اللغة العربية “أحمد عمر” كان يحبه إلى أبعد الحدود، ولا يعاقبه في ما يعاقب الآخرين عليه، وأهمها أن تلميذه النجيب لا يحضر كتبه، إذ لم أكن في حاجة إليها.
كان الأستاذ أحمد يقرأ الدرس بصوته الرخيم الجميل حتى ينهيه ليقول جملته التي يتوقعها الجميع: “اقرأ يا عبد الرحمن”، فيقف “عبد الرحمن” ليقرأ من الذاكرة الدرس سواء كان قطعة مطالعة أو نصًّا شعريًّا أو سورة قرآنية من دون خطأ.
لذلك حين تم توزيع الجوائز على المتفوقين كان نصيبه “حمالة بنطلون” بلاستيك صحتها هزيلة ومطاطها لا يَمطّ ولم تقوَ على رفع البنطلون أكثر من يومين “وراحت ميت حتة”، وحين سأله الأستاذ أحمد عمر عنها قال: “نسيتها في الشمس ساحت” فضحك الجميع.
والأستاذ “أحمد عمر” هو أول من قذف به إلى خشبة مسرح المدرسة ليلقي “خطبة” كتبها وساعده في صياغتها أخوه الأكبر “الشيخ جلال”.
في هذه المرحلة كان الأبنودي يحفظ الشعر بسرعة فائقة، وكذلك القرآن الكريم الذي قد حفظه في كُتَّاب “الشيخ امبارك”.
كان الأستاذ “أحمد عمر” نقطة تحوُّل كبيرة في حياة عبد الرحمن الأبنودي، ولولاه ما أحبّ الخال اللغة العربية واستطاع تطويعها في شعره؛ لذلك كان الخال الأبنودي حريصًا في إحدى زياراته لقنا منذ سنوات أن يبحث عن الأستاذ “أحمد عمر” ويذهب إليه في منزله، ويقضي معه ساعات يتذكر فيها أيام المدرسة، ليشعر الأستاذ أحمد بقيمة ما فعله قبل أن يرحل عن الدنيا.
الكاتب الصحفي محمد توفيق
اقرأ ايضًا: