كل الحكاية أبي
ممّا هو عالق في الذاكرة أيامٌ كنتُ أعود فيها للبيت ومعي كرّاساتُ المذاكرة، أتوجّه بحماسٍ نحو أبي ليطّلع بدوره على علاماتي، يثني على جهودي ثم يخطُّ ملاحظاته التي سيبدي المعلم إعجابه بها لاحقًا فأفخر بأنني ابنة مدرس للغة العربية.. عباراته لن تمرّ على قارئها سريعًا فهي على درجة من البلاغة والتعبير “هذه ثمار جهودكم الثرّة.. سدد الله خطاكم الغدقة”.
في مرحلة تالية بسنوات كنت أجالسه وهو يصحّح أوراق تلامذته مذيّلا إياها بعباراتٍ بين التوبيخ والتقدير، لم أعلم وقتها أنني وبعد حين، سأعيش نفس الموقف، وأكتب لتلامذتي ذات العبارات.. ربما هي تلك التفاصيل التي سللت لقلبي حبّ العربية عبر سنواتٍ كان فيها أبي هو الملهم والقدوة.
روى لي يومًا أنه وخلال إعطائه درس اللغة العربية دخلَ تلميذٌ متأخرًا، فسأله “أين كنت بني؟” ليجيبَ الآخر “كنت في التحتِ يا أستاذ”.. وإذ بالضحك بملأ القاعة، فكلمة “تحت” تستخدم بنفس معناها الظرفي المكاني لكن بشكل عاميٍّ لجأ له التلميذ عوضًا عن قوله “كنت في الخارج”.
والدي كان يستخدم العربية في حواره مع تلامذته ومع أولاده في البيت، فعند خروجه من البيت يخاطبنا ولم يجد ما يريد “أين حذائي يا أولاد؟” وعند تناول الطعام “بابا أعطني ملعقة”، ولدى عودته من زيارة صديقه يعلّل لي قصرَ الوقت بقوله “باركَ الله بمن زار وخفّف” مفرداتٌ فصيحةٌ إلا أن طريقةَ إرسالِه المغلفةَ بروح الفكاهة كانت تجعل وقْعَ اللغة أكثرَ خفةً وظرافة.
لم يحبّذ أبي يومًا الحديث الذي يتخلله ألفاظٌ دخيلة من لغات أخرى على غرار ميرسي.. أوك.. ثانكيو..إلخ، ولا يتجاوب مع قائلها، ليس كرهًا لتلك اللغات بل لأنه اعتبر أن اللغة هويةٌ وجوهرٌ فكري علينا ألّا نتخلى عنه حتى في مفرداتنا اليومية. وهو الأمر الذي حاولت التركيز عليه خلال فترة تدريسي للغة العربية، قبل أن أعطف حياتي إلى عالم الصحافة.
عشرُ سنواتٍ سعيتُ خلالها لإيصال اللغة العربية كمادة تفيض بالجمال والرشاقة، في حين قدمت النحو والصرف على أنهما قواعدُ رياضية تسهّل علينا فهم موسيقى اللغة والتواؤم معها، لعلّي حققت شيئًا مما صبوت إليه في هذا المجال، بدليل النتائج التي كنتُ ألمسها بنفسي مع تلامذتي الذين باتوا اليوم زملاءً وأصدقاء.
إلا أنني اليوم وعندما ألحظ مالحق بلغتنا من عطب وإهمال وتشويه وتقبيح أحمد الله أن أبي رحل عن عالمنا دون أن يشهد ذلك، هو الذي كان يتباهى بأن العربية كانت على مدى 8 قرونٍ لغة العالم ممتدة من آسيا مرورا بشمال إفريقيا وصولا إلى جنوب أوربا وغربها. فالعربيةُ موؤودة بين غزو اللغات الأخرى والانتحار الفكري والثقافي الذي تعيشه مؤسساتنا غير آبهين أننا بذلك ندفن هويتنا وتاريخنا وإنسانيتنا أيضًا. أملا في لحظةٍ يقوم فيها العربي من غفوته ويلحق البقية الباقية من لغة فاضت عليه الكثير، بذلك نرد شيئا من الجميل لأبي وأمثاله ممن أدركوا قيمة العربية وكانوا مخلصين لها بارين بها.
فلله درّ هذه الكلمات التي كتبها والدي يومًا معزيًا أصدقاءه لوفاة والدتهم وكم أزهو بختام مقالي بها
“كلّ نفسٍ ذائقةٌ الموت، أحبّتي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. السلام عليكم وعلى أهليكم وذويكم والبنين.. السلام على روحها الطاهرة العصماء.. أنجبتكم من نسيج خيوط الفجر.. من شروق الشمس.. من شعاع القمر.. ألقا وارتقاءً.. أنجبتكم من أب عاصم.. من عِناق طُهْر التراب، عِفّة وكفاحًا.. من حياةٍ إكليلها الأنَفُ الرفيع، فكنتم يَناعًا منه وله ضياء.. عذرا منكم.. لا أنسى جميلكم وبصماتكم الغرّاء.. أطالَ الله بقاءكم صحة وعافية.. أسبغَ عليكم النّعم والغدق والمَدَدَ الثرّ الأثيل.. سدّد الله خطاكم ورحم أم عزيز.. طيّب الله ثراها وأسكنها فسيح جنانه.. إنا لله وإنا إليه راجعون”
وئام يوسف – صحفية سورية
اقرأ ايضًا: