«تشرئب» له الأعناق
كان ذاك اليوم أول يوم دراسي بعد عطلة أعقبت حرب أكتوبر 1973.
شمس رمضان ساطعة.. لكن إشراقها في ذلك اليوم كان مختلفا.. كان مصحوبا بعبير النصر.
دخل أستاذ اللغة العربية المبجل إلى تلاميذ الصف السادس الابتدائي.. أنا من بينهم. كان مزهوا يكاد عنقه يطول السماء. أستاذ رمضان كان أعرج الخطى يمشي متكئا على عصا. قال لنا ذات مرة إنه أصيب في حرب 1967 وكانت روايته تحمل مزيجا من الحزن والأسى والكبرياء والافتخار بالإصابة.
بدا أستاذ رمضان بعد النصر مختلفا. بسمة القلب تطل من عينيه.
كان يومها “من قلبه وروحه مصري والنيل جواه بيسري” دأبه دأب أبناء الشعب الذين أبهج النصر نفوسهم من بعد حزن ورفع رؤوسهم من بعد انحناء. “أخرجوا كراسات الإملاء.” وبصوت يفيض فخرا أملى علينا قطعة عن النصر كلها همزات.. منها ما هو على الألف ومنها ما على السطر ومنها ما فوق الواو وعلى النبرة. إلى أن رجرج الجدران بصوت جهوري: “كان نصرا.. تشرئب له الأعناق”.
قالها بقلبه لا بلسانه. وحين نظرت إليه رأيت عنقه مرفوعا بالفعل. وحصلت في القطعة الإملائية الصعبة على الدرجة النهائية بفضل مخارج ألفاظه الواضحة السليمة. أستاذ رمضان الربع الأسمر كان أول من حبّبني في لغتي العربية. كان مخلصا في مهنته. وقد تلقاني في الصف الأول ثم اختتمت على يديه مرحلتي الابتدائية. فكان ذلك من حسن حظي.. إذ علمني فأحسن تعليمي في البداية ثم علمني فأحسن تعليمي في شهادتي الابتدائية.
أستاذ رمضان كان يحادثنا داخل الفصل بالفصحى ونرد عليه بالعامية فيرد علينا بالفصحى دون أن يقاطعنا.. فألفت آذاننا صحيح اللغة وجمال الحروف. وذات مرة لمحت زميلتي في حقيبتي المدرسية زجاجة العطر الصغيرة التي اشتريتها في اليوم السابق. مدت يدها. أخذتها. فتحتها ووضعت القليل منها على يديها. وفاح العطر في أثناء الحصة.
توقّف الأستاذ رمضان وأخذ يشم الهواء من حوله. قلبي يرتجف.. فكلنا نهابه بقدر ما نحبه. ثم قال: “وكأنني في صالون حلاقة. من فعل فعلته؟” بكل الخجل وقفت لأعترف بأنني صاحبة الزجاجة وأبيت أن أشي بزميلتي. كان أكرمه الله أينما كانت داره يكنّ لي معزة لالتزامي. ويبدو أنه رأى وجلي وخجلي.. فابتسم “إذًا فلنشكرك على تعطير الأجواء”.
أمل أبو السعود – صحفية
اقرأ ايضًا: