المنطقة الحرة

ميستر ثروت

حنان الجوهري

كلما صنعت طبقا من الفول بالصلصة والنعناع اليابس تذكرت تلك الورقة، كنت كأي طفلة تستهويني الأشياء الملقاة في الطرق، أجزاء اللعب المكسورة، اعقاب السجائر، صفحات الجرائد ممزقة، جزء من كتاب او غلاف مجلة، كل تلك كنت اعتبرها كنوزا، التقطها وانظفها وابدأ في اكتشافها ثم أملّ منها سريعا وألقيها مجددا إلى الطريق أو أمررها لصديق كهدية.

ذات يوم كنت عائدة من الفرن أحمل حقيبة الخبز الساخن وربطات الخضرة لأمي، وكالعادة أتفحص الأرض حولي، بينما أسير كأنني رادار. ثم التقطت عيناي تلك الورقة، فتناولتها وعدت بها فرحة لأمي.

كانت صفحة من كتاب وصفات أكلات شعبية على ما يبدو، كان الفول يُعد بطريقة مختلفة عما عهدناه في بيتنا، إذ يُضاف إليه عصير الطماطم والثوم والنعناع اليابس وفي النهاية بقدونس طازج على الوجه، ومن يومها وصار هذا الطبق المفضل عند أمي وخالاتي وإخوتي.

 وصارت أمي تُشير دائما لي بفخر كلما أعدته هي أو أخي، وصارت تذكرني بهذه الورقة كلما تبادر إليّ إحباط ما في حياتي العملية، كانت ترى أن انحنائي ناحية هذه الورقة تجسيد للطموح والسعي للمبادرة. ” فاكرة لما جبتي لي ورقة وصفة الفول؟ خليكي دايما كده، واسعي وما تستلميش”.

حتى الآن هي تربط بين جدية المحاولة واختلاف الرؤى بهذه الورقة.. أما أنا فأربط بين الورقة وحبي للقراءة وحبي أكثر للكتابة. فدائما ما أردد أن القراءة الصحيحة هي أساس الكتابة المختلفة.

فيما بعد وفي بداية المرحلة الإعدادية، ومع تسلّمنا كتاب المعجم الوجيز، وبداية فهمنا –أو فهمي أنا تحديدا- كيفية الوصول لمصدر الكلمة، أصبح هذا شغفي الثاني في الحياة، أن أبحث عن أصل الكلمة في المعجم، هذا الكتاب الذي أهمله معظم فصلي الدراسي ولم يمسسه أحد بسوء أو بخير، صار يلازمني دائما، أتصفّحه أحيانا دون هدف، حتى إن لم يكن هناك كلمة أودّ التحقق منها، امتد هذا الشغف للخرائط، في حصص الجغرافيا استهوتني البلاد والحكايات، هكذا كنت أعتبرها: حكايات وليست دروسا، أصبح عقلي به ملفات لكل البلاد، اذكر أنت البلد فأذكر أنا تاريخها وهضابها وزراعتها ومناخها وبما تشتهر وأعلامها من فنانين وشخصيات تاريخية، كنت أذهب إلى مكتبة بجوار المدرسة، أتصفّح عناوين الكتب حتى وقعت عيني على الأطلس العالمي الطبعة القديمة لوزارة التربية والتعليم، ادخرت من مصروفي البسيط حتى أتمكن من شرائه، حملته في يدي مثلما حملت المعجم الوجيز وقصاصات الورق بنفس الفرحة ونفس الشغف الذي جعلني غريبة السلوك بين زميلاتي.. هل كنت حقا كذلك؟ ربّما.

“ميستر” ثروت، مدرّس اللغة العربية، عاشق “ميس” هناء، مُدرّسة العلوم ذات الفم الصغير الوردي والمتزوجة، كان يأتي إليها في حصتها فتقابله بابتسامة وتعطينا تمرينا ما، لننشغل فيه، بينما تقف هي تحادثه حديثا باسما.

“ميستر”، هكذا كنا ننطقها بتأثير من “ميس” غادة بتاعة الإنجليزي ليمسّها الله بالخير، ميستر ثروت لم يكن يرحّب بأي مقاطعة خارجية في أثناء حصته، ولا حتى من ميس هناء، أراه جادا جدا إذا دخل من باب فصلنا، لا يضيع دقيقة إلا وهو يشرح شيئا ما، ليس كباقي المدرسين له تلاميذه المصطفون ولا يهتم بمن يجلس أمامه، لذا كان يعاملني بالرغم من حبي للغة كباقي التلاميذ.

المرة الوحيدة التي أثني فيها عليّ، لا أنساها، جاءنا موجّه لغة عربية من الإدارة التعليمية. كان يرتدي بدلة كاملة ويضع نظارة قراءة أنيقة، أصلع باسم الوجه، تصفّح دفتر ميستر ثروت ثم أخذ يسير بين الـ “ديسكات”، ليرى كيف نكتب في كراساتنا ويتابع طريقة شرح ميستر ثروت الذي كان متوترا، لأنه لم يكن يحب أن يُراقب أو يقاطع.

في نهاية شرحه توجه الموجّه إلى السبورة وكتب فقرة طويلة ركيكة الصياغة –متعمدا– وطلب منا أن نعيد صياغتها بحيث نبدأ بالجزء الفلاني، تسمّر جميع الطلاب في أماكنهم صمتا وبهتانا، رفعت يدي وليست لدي فكرة كيف سأفعلها، توجّهت ناحية السبورة، مدّ ميستر ثروت يده بقطعة طباشير وهو ينظر لي في ترقب وقلق، أنا أمام السبورة الآن.. حقا؟

يجب ألا أتراجع، من خلفي بقية التلاميذ وعلى يميني الموجه وميستر ثروت، ارتجلت الفقرة كلها دفعة واحدة، ووضعت الطبشورة مكانها ونفضت يدي ونظرت للموجه، اتسعت ابتسامته أكثر وقال “أحسنت”.

 لم أنس وجه ميستر ثروت المنبسط حتى الآن، ولا يده التي ربتت علي، تدفعني للجلوس وتكافئني، بينما قلبي يدق من فرط الخوف والإثارة. ولم أدرك حينها لماذا اندفعت وأنا لا أعرف كيف سأصيغ الجملة، ولا كيف سأنهي جملتي!

ومن وقتها أدركت معنى المغامرة، وأهمية المعجم والأطلس، وقيمة البحث حتى في الطرقات وعلى أرصفة بيع الكتب بسور الأزبكية.

مؤخرًا، وبينما أتذكّر هذا الموقف، أدرك الآن لماذا فعلتها!

عزيزي ميستر ثروت.. لقد فعلتها من أجلك أنت..

تحياتي

حنان الجوهري

اقرأ ايضًا:

الأستاذ هاني وردة

وصرخت ميس صافيناز

رسائل الغياب

لماذا لم تعودي يا ميس شيرين؟ 

المدينة البعيدة

كساحر خفيف اليد

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى