ماريان وخالد و”التشكيل”
على المقعد الأول بمنتصف الفصل، تجلس وأمامها مقلمة، تضع “كشكولا”، فوق كتاب خطّت عليه جملة لا تزال راسخة في ذهنها.. “لغتنا الجميلة”.
لا أتذكر الكثير من ذلك اليوم، لكن على ما يبدو لم أكن في أفضل حال مع زميلتي المقعد، كنا في خضم معركة طفولية معقدة، ربما على قطعة حلوى.. ودخل أستاذ خالد بحقيبته الجلدية السوداء، وشعره الممشط إلى الجانب، وبذّته شبه الرسمية، والعرق يتصبب من جبهته، “اكتبوا الدرس كاملا.. (بالتشكيل)”، ليضرم الأفكار في عقلي، ترى ما هو التشكيل، كيف يكون.
بخبث طفلة في المرحلة الابتدائية، رحت اتلصص على صديقتي، متمنعة عن سؤالهما، فكرامتي لا تسمح بالمصالحة في هذه اللحظة، ليأتي صوت من منتصف الفصل يسأل الأستاذ.. “هل من الممكن استخدام القلم الرصاص في التشكيل”، فقال له “نعم”.. فومضت الفكرة في رأسي.. إذن التشكيل هو أن نكتب الكلمة بالجاف والرصاص معا حيث يكون كل حرف بقلم مختلف، نعم هكذا فكرت.
وبدأب المجتهد، أخرجت قلمين ورحت أكتب الدرس حرفا حرفا، وكانتا تنظران إلى دفتري وتضحكان، ولم أكن أعرف السبب، فكنت أكظم غيظي وأقول “بالطبع مغتاظتين من خطي وتنظيمي”، وبالغت في ترتيب الصفحة، ولما انتهت مدة الدرس تقدمت بزهو طفلة متفوقة لأضع دفتري مفتوحا فوق بقية الدفاتر لتصحيحه.
أما هو.. جلس خلف مكتبه الصغير في مقدمة الفصل، كان هادئا تماما، ونحن نراقب كراساتنا واحدة تلو الأخرى، بتوتر طبيعي لمن هم في أعمارنا، نراها تصحح ثم تغلق ثم يضعها على يمينه، ولما مسك كراستي، ارتفع صوت الطفلتين بالضحك، وأنا انكمشت في مقعدي.
“ماريان”، ذهبت مرتجفة، ووقفت صامتة وفي عيناي مليون سؤال، ورجوت الله ألا يحرجني أمامهما، كنت مدركة أن هناك جريمة ما لكني لم أكن أعرفها.
“خطك رائع.. تنسيقك يدل على اجتهادك، ولكن هناك ملاحظة فالتشكيل هو أن تضعي علامات الإعراب، الرفع والجر والضم على الأحرف، ليكتمل جمال الجمل المكتوبة بخط منظم كهذا، صفقوا لها”، اختلطت كل المشاعر لتخلق داخلي جملة إدراكية جديدة، لم تكن في قاموس إحساسي، ربما أعجز عن وصفها، كنت فخورة رغم خطأي، مبتسمة ولمسة حزن داخلي، منتصرة في أثناء شعوري بالفشل، حتما هذا الشعور يصعب وصفه حين يلمس طفلة في مستهل عمرها بأبجديات مشاعرها البسيطة.
كانت كلماته كعناق أبي، وتصفيقهم كهدايا أعياد الميلاد، وخطأي كتوبيخ جدتي، ومشاعري معقدة، كمشاعر أمي في كل مرة أتسبب في “مصيبة” تنم عن ذكاء.
ولما عدت لمقعدي، أخرجت كشكولي وكتبت الدرس ثلاث مرات بـ”التشكيل”، ليراه في المرة المقبلة كواجب إضافي.
ربما يومها كان شعوري بالانتصار على زميلتي أكبر من شعوري بالامتنان لهذا المعلم، مع الوقت اختفى كل شيء، وبقى “أستاذ خالد”، معلمي الأول، كما لم يغادر كتاب اللغة العربية حقيبتي حتى انتهيت من المرحلة الثانوية.
الصحفية ماريان سعيد
اقرأ ايضًا: