“التذنيب” وأستاذ وهيب
كنت فى الرابعة أو الخامسة من عمرى عندما اشترت لى أمى أول كراسة وقلم رصاص وممحاة، وقررت أن تعلمنى القراءة والكتابة قبل التحاقى بالمدرسة، كانت تلك هى المرة الأولى التى أشعر فيها بالخوف والقلق من الغد والمجهول، لأننى لا أعرف شيئا.
بدأت أمى بتعليمى فى المنزل حرفا حرفا، لم تكن تنسى أو تتهاون تلك الدروس، فكل يوم فى الثامنة صباحا، توقظنى بالدق على الباب مصاحبا لصوت عال وهى تنادى “يلا يلا إتأخرنا يلا عشان نذاكر يلا عشان نلحق” وأنا أسألها “نلحق إيه؟” ولا يهم كيف سأبدو أو حتى أن أغير ببيجامتي، أو الشورت الصغير المتسخ بالشكولاتة، المظهر غير مهم، فهى أيضا كانت بملابس المنزل، وفى يدها الكراسة والأقلام مقبلة بوجه جاد عصبى، كان يقلقنى وكنت خائفة لماذا تفعل أمى هذا، وما أهمية أن أتعلم هذه الرسومات الغريبة؟
وتدور فى مخيلتى الأسئلة المقيتة التى أعانى منها حتى اليوم إلى أين أنا ذاهبة؟ ومن خشيتى كنت أنسى الحرف الذى تعلمته فى اليوم السابق، لنبدأ الدروس والصعوبات فى كل صباح جديد حتى الرابعة عصرا، ولم تمنعها تلك الدروس من ممارسة واجباتها المنزلية، فقد كانت تصطحبنى معها إلى المطبخ، وتجبرنى على الجلوس جوارها وهى تلف أوراق العنب وتقلب البصل، وتتابع كيف أكتب بينما رائحة التقلية تفوح، ومع ذلك لا تمنحنى فرصة للراحة.
وننتقل إلى الغرف التى كانت ترتبها وتنفض عنها الغبار، الذى خنق أنفاسى وأنا أمامها أبكى وهى لا تتوقف ولا تغفل، فلديها القدرة أن تفعل كل الأشياء فى نفس الوقت، ولا تستجيب إلى توسلاتى حينما كنت أصرخ “كفاااااية بقى” وتنصحنى بالاستمرار حتى أفقد قدرتى على الاتزان، وتنحدر الكتابة إلى أسفل السطر، أو تتجاوز الهامش.
وكنت أحاول الهروب من الدرس بحجة الدخول إلى الحمام، وشرب الماء، وبرى القلم الرصاص حتى يتلاشى، كنت أتصور فى نهاية القلم الرصاص الخلاص ولكن دون جدوى، أمى كانت مصرّة على الدروس، حتى الملل الذى ينتابنى فأبدأ بالكتابة بحجم كبير للغاية وأقضم ممحاة القلم الرصاص، فتوبخنى، حتى كشفت لها الأيام أن قسوتها لم تكن فى محلها؛ لأننى كنت مصابة بقصر النظر، ولا أرى جيدا بالفعل!
التحقت بالمدرسة بعد أيام ولم تنته تلك الصعوبات، بل كانت البداية لتحديات أكبر و لاسيما مع دروس العربى وكتابة الحروف، فتولت الأمر معلمتى وكان اسمها خديجة، كانت عجوز جدا، لا أذكر لها خيرا فعلته معي، لا أذكر سوى العقاب حتى اليوم، كانت تقرصنى فى أذنى، وتضربنى بالمسطرة على كفى الصغير، وتقوم بتذنيبى على الحائط طيلة الحصة، لأقل خطأ وكأن تلك السيدة أرادت أن تنبهنى لأن هذا هو مصيرى، وأن تلك الحروف هى العقاب الأبدى ومهنتى المستقبلية.
تمر الأيام، وعلى الرغم من كل ما سبق بدأت تظهر لدى مواهب الكتابة فى الصف الرابع الابتدائي، كما بدأ الشغف بالقراءة فى هذه السن، أمى كانت مهتمة بشراء الكتب، كنا نقرأ سويا، نتناقش فيما نقرأه، وكنت كلما انتهيت من كتاب أبدأ بالتقليد، كنت أشعر برغبة جارفة فى الكتابة والرسم، كنت أتطور فى الكتابة والإملاء سريعا، حتى بدأنا فى دروس قواعد اللغة، وهنا بدأت صعوبات جديدة مع مدرسى اللغة العربية، الذين مروا فى حياتى وجعلونى أشعر بأننى أغبى التلاميذ حتى هذا الأستاذ ذو الكرش الكبير الذى اعتاد أن يوقفنى فى أثناء شرودي، ليطلب منى إعراب الآيات القرآنية، ويتعمد إحراجى أمام زملائي، ثم يكلفنى بواجب منزلى طويل للغاية فلا أقوم به ويكون مصيرى التذنيب على الحائط.
لم يفض الاشتباك بينى وبين اللغة العربية بعد ذلك سوى رجل واحد جاء فى آخر أيام الثانوية، ليعلمنى العربية كنت قد تحدثت عنه سابقا اسمه الأستاذ وهيب، كان رجلا عاشق للعربية حضر من القصير من محافظة البحر الأحمر، ودرس فى دار العلوم، جعلنى أشاركه تلك المحبة، وأثار فى نفسى الحسرة؛ لأننى لم ألتق به من قبل، فاتنى الكثير، لكنه دفعنى للاستمرار فى الكتابة، كان يقرأ الإرهاصات الأولى التى كتبتها ويقوم بتصحيحها، وتنبأ لى بأننى سأصبح كاتبة.
انتهت أيام الثانوية، وذهب الأستاذ ولم نلتق ثانية، لكننى ما زلت أذكره بعدما أصبحت كاتبة وامتهنت الصحافة، وجوه كثيرة تروح وتأتى، لكن يبقى دائما وجه واحد لا ينسى يكون دائما شخص ترك فينا أثرا بالغا مثل هذا الـ”الوهيب” وأمى التى اختصرت المسافة، ونبهتنى مبكرا لأهمية لغتنا الجميلة.
اقرأ ايضًا: