الأستاذ عبد الجبار.. ولكمة “الإعراب”
لا أتذكر كل أسمائهم، منذ أن طلب منى الصديق حسام مصطفى إبراهيم مقالا عن هؤلاء الجنود المجهولة، الذين ربونا، وبفضلهم نشأنا فى حبها، سبب مجهول محى بعض الأسماء، أستحضر هنا ثلاثة منهم، الأستاذ توفيق، الذى كان يرتدى قمصانا خفيفة فى عز الشتاء، بينما نذهب إلى المدرسة متضررين من الخروج من الفراش الدافئ، كما أتذكر أستاذين آخرين، أحدهما ابن المدينة، الطويل الممشوق الأصلع، الذى كانت لكنته العربية تشعرنا أننا نجلس أمام مجود للقرآن فى حفل افتتاح، سأسميه افتراضيا أستاذ سليمان.
لا أعرف لماذا تحضرنى شخصيته بمسمى “سليمان”، بالتأكيد لم يدرس لى أى أستاذ يحمل اسم “سليمان”، كما سأحكى أيضا عن أستاذى الصعيدى، الذى درس لى فى الثانوى، وعاقبنى ذات مرة بلكمة فى شفتى، سأسميه الأستاذ عبد الجبار.
أبدأ بأستاذ توفيق، مدرس اللغة العربية فى مرحلة الإعدادى، أتذكره لأننا كنا نتعجب من قدرته الفائقة على تحمل البرد الشديد، بارتدائه ملابس خفيفة فى شهور الشتاء الصعبة، كان يكتفى ببلوفر واحد حينما يوغل الشتاء فى ثقله، فى الأوقات التى نرتدى فيها أكثر من رداء، كان وسيما، ويحلو له استجوابنا فى حصته، على طريقته، يكتب فقرة من بضعة أسطر، ثم ينهضنا واحدا تلو الآخر، لإعرابها، كانت حصص الإعراب، تشهد ضربا وتقريعا، وكذلك احتفاءً بمن ينجو من العصا، بذكر الإعراب الصحيح.
فى المرحلة الثانوية أتذكر أستاذى الذى سأسميه سليمان، لا أتذكر اسمه، لكننى أتذكر جيدا كيف كان طيبا، خلوقا، يحبنا، على الرغم من انتظامنا فى مدرسة حكومية يتهكم طلابها على أساتذتهم، ويتباهون بالسخرية منهم، إلا أن أستاذنا – سليمان- كان وقورا، يحترمنا، ويحترم نزقنا، فقدرناه.
كنا نستمع إليه فى هدوء عجيب، على الرغم من اكتظاظنا وكثرتنا، أتذكر أن الرجل لم تفارق بسمته شفتيه، على الرغم من طول اليوم الدراسى، كان يقرأ الدرس، كأنه يجود الكلمات، يمط شفتيه، ويتباهى بينما يمد الممدود، يحكى لنا أحيانا عن نفسه، ويحدثنا كأننا أصدقاؤه المقربون، شعرنا معه بالألفة مع اللغة، والقرب من القواعد، كانت حصته راحة من حصص الفيزياء والأحياء والكيمياء، وفرصة لتنفس الهواء من ثقل التفاضل والتكامل، وغيرها من المواد الثقيلة.
أما عبد الجبار، فلا أتذكر بالضبط متى درّس لنا، ربما كان ذلك فى الصف الثالث الثانوى، كان متوسط الطول، ولم يكن جبارا أبدا، لكن شخصيته كانت قوية، صارمة، وصوته كان جهورا، عفيا، وعلى الرغم أنه كان يدرّس لنا فى المدرسة الثانوية الحكومية، المشهورة بعتو طلابها، وفجورهم مع مدرسيهم، إلا أن هيبته كانت تسبقه، وكنا نشعر بأنه ليس من السهل مطلقا، أن نمارس معه نفس الفجور الذى نمارسه مع الآخرين.
وعلى الرغم من أنه كان زميلا لسليمان، فى نفس المدرسة، فإنه لم يكن يماثله أبدا فى دماثته، نسيت اسمه، لكننى لم أنس مطلقا، أنه عاقبنى ذات مرة أخطأت فيها فى الإعراب، بلكمة قاسية، هوت على شفتى، اندفق خط رفيع من الدم الساخن كان كفيلا بأن يُغطس الفصل فى صمت مرعب، وثقيل، كان صعيديا، ولم يكن هذا السبب الوحيد لخشيته، كنا نخشاه، لأنه كان يتباهى بقدرته على إعراب القرآن، كنا نجلب له آيات صعبة ونطلب منه إعرابها، طلبنا منه إعراب “كهيعص” وحدها، لا أتذكر تحديدا ماذا فعل؛ ليخرج من هذا الموقف، لكنه فعلها، وأبهرنا، جعلنا نتوقف أمام قدرته الهائلة على إعراب الحروف التى وضعها المولى فى مستهل بعض السور، كان يرمقنا بسخرية، بينما ينتهى من إعراب “كهيعص” كأنه يقول لنا: أنا أقوى منكم أيها الأوغاد الصغار، وقد كان.. رحم الله أيام أساتذتنا.. الذين نتذكر مغامراتهم مع العربية، لكننا مع الأسف لا نتذكر أسمائهم.
الروائي وجدي الكومي
اقرأ ايضًا: