المنطقة الحرة

سبحانك اللهم خير معلم

لا يمكن أن أفكر في الحديث عن معلم للغة العربية دون أن يقفز في ذهني القرآن الكريم مباشرة قبل أي شيء آخر، قبل والدي حتى الذي أدين له بالفضل في حبي لتلك اللغة وآدابها، ولكن بالفعل القرآن هو منهج التعليم الإلهي للبلاغة الممتنعة والحكمة الصادقة واللغة الصافية النقية، وعندما أراد شوقي مدح المعلمين كتب..

سبحانك اللهم خير معلمٍ … علّمت بالقلم القرون الأولى

أخرجت هذا العقل من ظلماته .. وهديته النور المبين سبيلا

وبالفعل، فالخالق سبحانه وتعالى هو المعلم الأول والأخير للإنسان دائما، وحين يختار إيصال رسالته (بلسان عربي مبين) فلا بدّ أن هذه اللغة معجزة في حد ذاتها لتصبح أداة توصيل الرسالة التي تعهّد بحفظها، ومن يدرك أو يستشعر عظمة القرآن يجب عليه أن يفهم اللغة أولا ويدرك مداخلها ومخارجها وخباياها، لأن اللغة هي أداة توصيل المعنى، ودون امتلاك حقيقي للغة لن يصل إلى القارئ معنى أي شيء على الإطلاق، فالأمر الإلهي في بداية الدعوة بـ (اقرأ) يحمل معه بالتبعية أمانة التوغل في اللغة والتفقه فيها لتصبح القراءة لها معنى بعد ذلك هو الأقرب للصواب

وبعد القرآن مباشرة يأتي أبي معلما واحدا لا شريك له، ولا فضل لغيره في عشقي تلك اللغة حتى أصبحت أتنفسها، كان أبي يحفظ كميات مهولة من الشعر القديم ويستشهد بها في أغلب أو كل المواقف تقريبا، كان يحكي لي في البداية عن أيام العرب وطرائفهم بنفس اللغة التي قرأها بها في الكتب القديمة، غمس خيالي كاملا في الخيل والصحراء والفروسية والشعر في تلك الفترة، مع التركيز على سرد حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته وسيرته العطرة وكيف سارت فترة الخلافة من بعده

لم أجد في معلمي اللغة العربية بعد ذلك من اقترب ولو من بعيد من منزلة أبي في اللغة، ولكن أذكر منهما اثنين على وجه التحديد، ميس سمية في تانية ابتدائي، ومستر إسماعيل في تالتة إعدادي، الأولى أتذكرها لأنها صنعت مكتبة خاصة في الفصل وساعدت بشكل كبير في غرس القراءة كنشاط محبب لدينا، والثاني أتذكره لأنه كان دائما ما يطلب مني أن أرتل القرآن الكريم ويدعو الآخرين إلى التعلم مني وما شابه، وبالطبع كان هذا يرضي غروري وقتها كما يجب أن يفعل.

أما المعلم الذي هو مستمر حتى الآن وسيظل مستمرا إلى أن يشاء الله فهو القراءة، فاللغة كائن حي ينمو في وعيك وخيالك على قدر ما توفر له من أدوات تساعده على النمو، والأمر الإلهي (اقرأ) في بداية الرسالة لم يكن عبثا أبدا أن ينزل على النبي الأمي صلى الله عليه وسلم، فدائما القراءة توسع من مداركك وقدرتك على استيعاب اللغة وربط الجذور ببعضها البعض حتى تصنع مناخا ملائما لنمو هذا الكائن العفي الجديد

والقراءة لا تكون في المقالات أو الروايات أو غيرها من أشكال اللغة المسطحة بالمناسبة، وإنما يجب أن تكون القراءة في التراث بالأساس لتفهم وتستوعب لغتك، وهذا هو ما يرفضه الكثيرون اليوم ولا يلقون له بالا، كأن اللغة الحالية نبتت من الفراغ مثلا أو حدثت فجوة زمنية نقلتنا بشكل مباشر إلى اللغة الحديثة السهلة البسيطة، التراث هو أساس اللغة العربية يا سادة، واللغة العربية هي أساس استعدادك لفهم آيات الذكر الحكيم، تغييب التراث يحمل معه بالتبعية انفصالا أكبر عن القرآن الكريم، لأن القرآن لغته تراثية وبلاغية، وحمال أوجه كما نعلم، ولا سبيل لفهمه إلا من خلال اللغة، هذا لمن أراد أن يفهمه بالتأكيد إن لم يكن ختم الله على قلوبهم أو وضع عليها أقفالها.

اقرأ ايضًا:

الأستاذ هاني وردة

وصرخت ميس صافيناز

رسائل الغياب

لماذا لم تعودي يا ميس شيرين؟ 

المدينة البعيدة

كساحر خفيف اليد

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى