بعد 8 سنوات من البحث.. أستاذي “وائل رشاد” أين أنت؟
أتذكر ذلك اليوم الذي لم أستذكر فيه لامتحان اللغة العربية في الصف الثاني الثانوي، نتيجة انفصالي عن صديقي الذي ارتبطت به عاطفيا وقضيت الليل في البكاء بدلا من المذاكرة، لأقرر النوم -كعادتي- والهروب من الامتحان وإقناع مريم -ابنة عمي وشريكتي في الدراسة- بما خططت له، واستعددت لتحمل عواقب غضب معلمي المفضل أستاذ “وائل رشاد” -الذي أحببته واعتبرته صديقا وليس مجرد معلّم- أكثر من عواقب تغيّبي عن الامتحان بهذه الصورة المفاجئة، إلا أن أستاذ وائل كان له رأي أخر.
بعدما أغلقت هاتفي المحمول حتى لا يستطع أستاذ وائل الوصول لي أو لابنة عمي، لم يستسلم لتهربنا، بل اتصل على هاتف منزلنا وطلب من والدي أن يوقظني كي أذهب للامتحان دون نقاش مني، وبمجرد إخبار والدي لي بهاتف أستاذي، استيقظت على الفور وذهبنا أنا ومريم للامتحان، نظر لي بغضب لما فعلت، وأخبرته أني لم أذاكر ولا أريد أن أخوض هذا الامتحان، إلا أنه شجعني على المحاولة، أو على أقل تقدير أكتب موضوع التعبير المطلوب في الامتحان.
لا أتذكر الفكرة التي طلبها سؤال موضوع التعبير، ولكني أتذكر جيدا كيف أخرجت كل البكاء الذي قضيت فيه ليلتي في كتابة هذا الموضوع، صفحة واثنتان نالت إعجاب أستاذي المفضل، الذي كتب لي حينها “أتنبأ لكِ بمستقبل باهر في الكتابة”، لأقطع هذا الجزء من الورقة، وأحتفظ بهذه القصاصة حتى يومنا هذا، ليشجعني بعدها أستاذ وائل على الكتابة باستمرار.
لا أعلم لماذا أحببت أستاذ وائل تحديدا، هل لأني أحب اللغة العربية منذ صغري -ودائما ما كنت أعتبرها “كتاب دين” المواد، فهي المادة المقدّسة لدي، كشكولها “سلك، كبير” مختلف عن باقي المواد- أم لأن أستاذ وائل يملك من الشخصية والأسلوب ما حببني فيه وفي مادته التي تصادف أن كانت هي في الأصل مادتي المحببة دائما، وبغضّ النظر عن الأسباب أحببت أستاذ وائل وتفننت في إبهاره بـ”شطارتي” حتى أحصل على مديح بسيط منه أو “خمسة جنيه” هدية تحمل إمضاءه، ولا أعلم أنها ستكون هي وصورة له في أحد الندوات كل ما تبقى من هذه الفترة.
قضى أستاذ وائل في مدرستنا عاما، وبعدها أخبرنا بنيته السفر في العام التالي للعمل بالسعودية، أتذكر وقع هذا الخبر عليّ حينها، وكيف حاولت تحاشيه، والتركيز في الوقت المتبقي له معنا، دروس وحصص وتليفونات، زاد فيها أستاذ وائل من حبنا للغة الغربية، ليس كمادة فقط وإنما كأسلوب حياة، شجّعني على الكتابة، فكنت أسهر أكتب قصصا وأخبئها بين الكتب وأدّعي أمام والديّ المذاكرة، وأذهب له يقرأها ونناقشها معا ويطوّر من كتابتي، ثم أخيرا في الامتحانات.. يسهر معنا ونتواصل ليلا حتى الفجر إذا استوقفنا سؤال، حتى كسب رهانه معي ولم أنقص في اللغة العربية سوى “نصف درجة”.
سافر أستاذ وائل العام التالي، وكانت كل الأمور شاهدة على رحيله، بدءا من محاولة إيجاد بديل له لا يقلل من حبنا للمادة مرورا بـ”تزويغنا” من حصص العربي الذي لم يملأ أي مدرس أخر الفراغ الذي تركه فيها، وانتهاء بفشل كل محاولات التواصل معه بعد سفره، قبل اكتشافنا اختراع “فيس بوك”، ولكنه ترك فينا حبنا للعربي وشغفنا بالنحو، والاستمتاع بالكناية والتشبيه والاستعارة المكنية في النصوص، لكن أبدًا لم نحب مدرسًا كما أحبننا أستاذ وائل رشاد.
ما زلت أذكر أستاذ وائل في كل تفاصيل حياتي التي مررت بها، منذ التحقت بكلية الآداب قسم الإعلام شعبة صحافة وامتهاني لها، وكلما كتبت موضوعا صحفيا نال إعجابي وسمعت به إشادة من الآخرين، لا يخطر في ذهني سوى أستاذ وائل، الذي طالما رغبت في إيجاده وإخباره بما تنبأ به لي وتحقق، وأتخيل حينها ضحكته على بشرته الداكنة، وأتوقع منه الإشادة التي ستحل بي نفس السعادة التي كان يغمرني بها وأنا التلميذة “بتاعة الإذاعة” التي كانت دوما اختياره.
أكثر من 8 سنوات أبحث فيها عن أستاذي المفضل بشكل متقطع، تارة اسأل بعض المعلمين بالمدرسة، وتارة أسأل زملائي ممن لم تقطع الدنيا سبل وصلنا، وتارة أبحث على مواقع التواصل الاجتماعي مستخدمة عشرات الطرق، إلا أن جميعها لم تفلح، لكن ما زلت على عهدي في حب اللغة، وأتذكره مع كل همزة أصححها، وكل خبر أنشره وكل موضوع أستمتع بكتابته، ولدي يقين بأني سأجده يوما وحينها سيكون أمامه أرشيف طويل، يحمل اسمي، ينتظر رأيه في كل أحرف السطور التي كتبتها، انتهاء بهذه الكلمات في اليوم العالمي للغة العربية التي أحببتني فيه وأحببتها به وصار عندي أيقونة اللغة ومعبدها.
سارة سعيد – صحفية
اقرأ ايضًا: