اسمه “مستر خِضر”.. صانع الشعراء
الاعتياد يقتل الدهشة، الكل يعرف ذلك، عدا الذي يعيش الاعتياد، ذاته، وكذلك كنت أنا حين عشت طفولتي بين أب وعم وجَدّ وخالة وابنة عمة جميعهم يُدرّسون اللغة العربية، بل إن أبي كان مدرسا أول للغة العربية في معاهد الأزهر، حيث قضيت سنوات تعليمي الأربع الأولى.
بعد وفاة الوالد انتقلت إلى التعليم الأميري، ولم أحس بما يتشكّى منه أقراني من “مادة العربي” وصعوبتها، وكان هذا التشكي هو المدهش في الحقيقة، وزادت دهشتي حين وجدت معلمتي في الصف الأول الإعدادي تكتب أمثلة “النحو” على السبورة خطأ، لأجدني أخطو إليها وأميل على أذنها مصححا، فتبتسم وتمسح وتعدل، واكتشفت أنها أيضا كانت تتحدث عني مع زميلاتها في غرفة المدرسات، فزميلاتها اللاتي درّسن لي في العامين التاليين، كُنّ يدخلن الفصل وأعينهن تبحث عني لتلتقي بعينيّ ثم تنشأ ابتسامة متبادلة، يتبعها احتواء يستمر لآخر العام الدراسي.
في وقفة مع النفس لاحقا، أدركت أنني تعلمت من تلك المعلمة التي كانت تخطئ شيئا قيما، هو الاعتراف بالخطأ وعدم المكابرة، والأهم تشجيع المبادرين بالتصويب، خصوصا لو كان هذا المبادر أصغر سنا أو أقل خبرة، فهذا من شأنه أن يرفع معنوياته ويزيد ثقته بنفسه.. نعم تعلمت هذا منكِ يا “أبله أمل”.
لم أكن أجد تحديا في هذه “المادة” حين دخلت المرحلة الثانوية، فأنا أعرف المطلوب للنجاح سلفا، وأستذكر الدروس بسهولة، وتعاقب المدرسون، ولم أنتبه إلى أيهم، وكذلك لم ينتبه أحدهم إليّ، فهم كانوا يبحثون عن الطالب الذي يستطيعون استقطابه إلى دروسهم الخصوصية، ولست من هؤلاء.
جاء العام الثالث الثانوي، ونحن في مدرسة جديدة، والعجز في عدد المعلمين كبير، لتسوق الأقدار إلى فصلنا مُعلما منتدبا لشهور قليلة من مدرسة البنات، سمعنا بشدته ومزاجه الغريب وشخصيته المختلفة وردود أفعاله غير المتوقعة.. اختبرت ذلك بنفسي في أول مرة رأيته، إذ وصلت متأخرا وفي ظني أنني سأتلقى وصلة توبيخ قبل أن أتخذ مقعدي متبوعا بهمهمات وضحكات ساخرة من زملائي، لكنني فوجئت به يشير لي بالدخول دون أن ينظر لي، مستكملا ما بدأه من شرح.
مع طول مراقبتي له، أدركت أن عقاب من يتأخر أنه سيفوته شرح ماتع ومفيد من الأستاذ محمد خضر؛ للمرة الأولى أصطدم بواقع أنني فاتني الكثير على مدار السنوات الماضية من إتقان اللغة، لأن أحدا من المدرسين لم يكن يعنيه أكثر من تقديم المنهج، والإجابة على الأسئلة التطبيقية في “كتاب الوزارة”، بينما لم يكن الأستاذ خضر يشرح المقرر بقدر ما كان يناقش القضايا اللغوية والأدبية، ويتوسع في الحديث عن تاريخها والظروف المصاحبة لها.
لا أعرف ما الذي حدث لي خلال شهر واحد تابعت فيه دروس اللغة العربية، باهتمام أجبرني عليه هذا الرجل القصير خفيف الظل، فقد ألفيت نفسي أسرح مع النصوص الأدبية وأحفظها حبا لا إلزاما، وأتأمل جمالها ليس بغرض “استخراج مواطن الجمال” في الامتحان.. قصة “نظرة” للأديب يوسف إدريس كانت مقررة علينا وقتها، ولم أنس ملابساتها حتى الآن –وقد مر أكثر من اثني عشر عاما- فقط لأنه قال لنا قبل شروعه في الشرح إنها كانت سببا في تعديل قانون التأمين الاجتماعي عام 1954.
هكذا أدركت أن “العربي” ليس مجرد مادة دراسية أحفظ ما فيها من قواعد نحوية وصرفية، بل هي وعاء للكثير من الأدوات الجمالية المشبعة، فقط إذا تتبعتها بالطريقة التي يقدم بها الأستاذ خضر دروسه.
لم يتوقف الأمر عند ذلك، فذات مرة رأيت واحدا من زملائي المقربين (الشِّلّة) يقف مع “مستر خضر” وبدا أن الحديث الدائر لا علاقة له بكونهما معلما وطالبا. عاد الزميل وسألناه عما كان يدور بينهما، فقال إنه كان يستفهم منه عن كلمة “العروض” التي توقفنا عندها في كتاب النصوص، ولم نجد لها معنى في سياق العبارة.. توقفنا عن الحديث لأن الاستاذ بدأ الحصة.
في الفسحة ذهبنا لا ينقصنا من “الشلة” فرد، لنستفهم ما معنى كلمة “العروض” التي اكتشفنا أنها بفتح العين لا بضمها، ليقول الأستاذ إنها تعني العلم الذي وضعه الخليل بن أحمد الفراهيدي، ويؤسس فيه للأوزان الإيقاعية التي يستخدمها الشعراء في نظم أبياتهم، فمثلا إبراهيم ناجي كتب “سألتك يا صخرة الملتقى…” وهو يستحضر إيقاع “فعولن فعولن فعولن فعو”، وقصيدة عنترة بن شداد التي تبدأ بـ”سكت فغر أعدائي السكوت…” هي على وزن “مفاعلتن مفاعلتن مفاعل”.
انتهت الفسحة بأسرع مما كنا نتمنى، لكنها كانت الفسحة الأهم في حياتي، فقد بُحت للأستاذ بأنني أحس بخيالات ومعان في خاطري ولا أعرف كيف أعبر عنها، فأكتفي بإعادة قراءة القصائد المقررة علينا في كتاب النصوص لتهدأ روحي، فنظر لي وفي عينيه لمعة سبقت ابتسامة شفتيه، وقال: “نتكلم بعدين.. يللا ع الفصل”.
هذه الـ”بعدين” كانت في كل وقت فراغ نخلقه ويصادف أن نرى فيه الأستاذ غير مشغول بحصة أو بحديث مع زملائه، بل إننا كنا نجد وقوفه مع مدرّس آخر فرصة لنلتف حوله منتظرين أن يتفرغ لنا ليحدثنا عن الأوزان والإيقاعات والشعر، ولما كان اليوم الدراسي محدودا، فتح لنا بيته لنزوره “آخر النهار”، ولأن زياراتنا كانت كثيرة وقد بدأنا نكتب الشعر ونحتاج إلى رأيه في ما نكتبه، فكان يعطينا مواعيد في فرع النقابة المعلمين بمدينة 15 مايو.
لسنوات طويلة ظللنا على هذه الحال، كان هو قد عاد إلى مدرسة البنات، ونحن دخلنا الجامعة، ولم نزل نتردد عليه، لا ليعلمنا الإيقاعات، فقد أتقناها، إنما لنتعلم كيف نقرأ الشعر، وكيف نُقيّمه، كيف نتخلص من الرداءة، وكيف ننتصر على صخب الموسيقى وكليشيهات اللغة، كيف نبتعد عن أساليب الشعراء الآخرين.
لقد علمنا كيف نلقي قصائدنا من دون أن نخطئ في النطق، بطريقة سهلة ما زلت إلى اليوم أنصح بها كل من يشكو إليّ معرفته بقواعد اللغة نظريا وفشله في النطق بشكل صحيح.
اليوم، في عيد اللغة العربية، أقول للأستاذ محمد خضر “شكرا أيها المعلم”، ليس فقط لأنه دربني جيدا وقومني كثيرا، بل لأنه بعد كل ذلك أوصلني إلى شعراء كبار في نطاق مدينتي 15 مايو وحلوان، لأعرض تجربتي أمامهم وأتلقى تعليقاتهم وأستمع لمناقشاتهم، وأنا بعد في الثامنة عشرة من عمري، ثم أعود إليه وعندي وجهة نظر أحاججه بها فيسمح لي أن أجادله وأختلف معه، فيضرب لي –وقد أدرك أنه أجاد صناعة شاعر- موعدا في “المقهى” لنتناقش في الشعر وغيره، كندين، أستميت أنا لإثبات صحة رأيي، ويعلو صوته هو الآخر، ولكن دون أن يفقد ابتسامة شفتيه.. ودون أن تذهب اللمعة من عينيه.
الشاعر محمد حمدي
اقرأ ايضًا: