المنطقة الحرة

أستاذي والاسم السادس الذي حذفته التعليم حفاظا على الأخلاق!

حامد محمد حامد

رغم أنه كان سلفيًا، يعفي لحيته ويقصّر بنطاله إلى ما فوق الكعب، حاد الملامح، صعيدي اللهجة والتفكير. فإن موهبته في تدريس اللغة العربية كانت فائقة!

إلى اليوم يظل الأستاذ خيري الذي درسّني اللغة العربية في سنوات الثانوية ظاهرة مدهشة بالنسبة لي!

كان صعيديًا من قنا، متحدثًا بارعًا، تنساب اللغة العربية منه بسلاسة ودون تقعّر، فكأنه من نسل القبائل العربية التي جاءت إلى مصر مع الفتح الإسلامي، واستقرت في الصعيد، وأكسبت أهله لهجتهم العربية المميزة..

كان يتعامل مع اللغة العربية على أنها رسالته التي كلّفه الله بتبليغها لطلبته بغضّ النظر عن المقرّرات الدراسية والامتحانات، وعليه أن يفعل أي شيء للتقرب من طلبته وتبليغ رسالته، كان يستقطب المشاغبين، يلعب معهم الكرة ويحلل مباريات الدوري ويذكّرهم بالنقاط التي يتصدر بها الأهلي، أما طلبته المفضلون من صغار المثقفين فكان يتبادل معهم روايات نجيب محفوظ وشروح المعلقات العشرة ودواوين الشعراء، وفي الإجازة الصيفية يؤسس صالونًا ثقافيًا أسبوعيًا في المدرسة، ويدعو إليه طلبته المختارين، يشجعهم على القراءة والكتابة وتحليل ما يقرؤونه ويكتبونه..

عشقه للشعر كان جارفًا، فكان يدهشنا بمحفوظاته الغزيرة، وإلى الآن ما زلت أذكر كيف سحرنا تمامًا وهو يروي لنا قصيدة “صوت صفير البلبل” بالغة التعقيد، والتي أفحم بها الأصمعي الخليفة أبا جعفر المنصور!

كان يلحن أي نص من النصوص المقررة علينا بطريقة مميزة، ويقول إن العرب كانوا يترنّمون بقصائدهم بهذه الطريقة وهم يحدون الإبل -أي يحثّونها على السير- وهكذا وجدنا أنفسنا قد حفظنا جميع النصوص دون أن نشعر، حتى النصوص غير المطلوب حفظها..

وكان يتعامل مع اللغة العربية ككل واحد، يشرح نصًا شعريًا ثم يطالبنا بإعرابه، أو يطلب منا أن نستخرج تشبيهًا أو استعارة من تدريب للنحو، وكان يردّد أن فهم البلاغة يكمن في الإحساس بالنص والتماهي فيه، وليس تطبيق القواعد الجامدة، فكيف بالله سيتذوق القارئ نصًا وذهنه مشغول بالمشبه الذي تم حذفه والمشبه به الذي تم التصريح به!

كان يفهم تمامًا نفسية المراهقين، ويعلم تأثير نوادره اللغوية الماجنة التي يحكيها والتي تكتسب سخونتها من كونه شيخًا وخطيبًا سلفيًا، يفتتح مثلًا درسًا عن الأسماء الخمسة بتساؤل ماكر عن عددهن الحقيقي، خمسة أسماء أم ستة؟!، ثم يستفيض في شرح الاسم السادس السريّ الذي حذفته وزارة التربية والتعليم حفاظًا على الأخلاق العامة!

وعندما يصل في شرحه ذات يوم إلى الأسماء التي تبدأ بهمزة الوصل، يقص علينا حكاية أمير المؤمنين المهدي، عندما أراد أن يمتحن معلم ابنه هارون الرشيد، فسأله كيف “الأمر” من السواك؟ فقال المعلم الأحمق: استك يا أمير المؤمنين!

أما عندما يتكلم عن ظرفي الزمان والمكان، فلا ينسى أن يغمز بعينه مذكرًا بأن الاسم القديم للظرف في كتب النحاة القدامى هو –ولامؤاخذة – المفعول فيه!

والآن وبعد أن دارت الأيام دورتها، وبعد ما يقرب من عشرين سنة، تزوي تمامًا ذكرياتي عن المدرسة، تتداخل الأحداث وتتناطح، فتلاشي بعضها بعضًا، وحدها دروس الأستاذ خيري تلوح كما يقول طرفة بن العبد كباقي الوشم في ظاهر اليد!

حامد محمد حامد – صيدلي

اقرأ ايضًا:

الأستاذ هاني وردة

وصرخت ميس صافيناز

رسائل الغياب

لماذا لم تعودي يا ميس شيرين؟ 

المدينة البعيدة

كساحر خفيف اليد

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى