المنطقة الحرة

الأستاذ هاني وردة.. سندوب الإعدادية بنين

كانت المسألة من بدايتها مجرَّد: هذه فتحة، هذه كسرة، هذه ضمة، هذا سكون، انطق هكذا، في بداية الجملة مبتدأ، في نهايتها خبر… حتى ظهر “الأستاذ هاني” وأنا في الصف الثاني الإعدادي…

لم يكُن تدريس اللغة العربية عنده مجرَّد نقل معلومات أو توصيلها؛ كان يهتمّ فقط بأن “نشعر باللغة”.

في أول حِصّة رأيتُه فيها في المدرسة الإعدادية ببلدتي، كنت متحفِّزًا جدًّا بعد عامٍ كاملٍ مع معلِّمةٍ كان أقصى جَهدِها أن تقرأ الدرس من الكتاب، وأقصى طموحها أن لا تخطئ في القراءة، وكُلّ رجائها أن أتجاهل -أنا الطالب الفذلوك- ما تخطئ فيه، ففي الأوَّل والآخر “كلّكو هتنجحوا بإذن الله”.

كنت متحفِّزًا، وأنتظر ما يقع فيه من أخطاء لأنبّهه لها… ومرّت الحصة، ولم يخطئ… ولأول مرة منذ وقت طويل أشعر بـ”المتعة” من الاستماع إلى “إحساس المعلّم باللغة العربية”. كان يحسّ اللغة، وكان ماهرًا في نقل هذا الإحساس، وكان كل تلميذ في الصف يشعر أنه يحدّثه هو بشكل شخصي… أما أنا فلم أكن أشعر بهذا، بل كنت أعرف هذا. كنت أعرف أنه يحدِّثني بشكل شخصي بالفعل، وربما كان يحدِّثني وحدي.

انتقلتُ إلى الثانوية العامة، ولا أحد يقدِّر حتى الآن مدى سعادتي حين علمتُ أنه -في صدفة نادرة التكرار- نُقل إليها من المدرسة الإعدادية أيضًا. لم يدرّس  لصَفِّي في الثانوية، ولكن جميع المدرّسين اعتادوا أن “محمود بتاع أولى تاني” إذا دخل غرفة المدرّسين فإنه سيناقش الأستاذ هاني في اللغة العربية، وفي الغالب ستضيع عليه الفسحة، وربما الحصة التالية إذا لم يكن الأستاذ هاني مشغولًا.

لم يكُن الأستاذ هاني وردة ذلك العالِم بكل شيء في اللغة، فكثيرًا ما كان يقول: “مش عارف”، ولكنه كان دائمًا يُتبِعها بـ”هادوَّر عليها أو أسأل حدّ أعلَم منّي وأقول لك”. وخلال يوم أو بعض يوم كان يعود ويخبرني بالإجابة، وبإجابة كل ما قد يطرأ على ذهني من أسئلة متفرِّعة، كأني أنا الذي كنت أبحث لا هو!

بسببه هو وحده أحببتُ اللغة العربية، لم تعُد تلك المادة التي أنا متميِّز فيها لقدرتي على استيعاب قواعدها أو حفظها وحفظ نصوصها ومعاني كلماتها، بل أصبحَت تلك المحبوبة التي أشعُر بأنفاسها على وجهي كلما تأمّلتها، أصبحَت تلك الشمس المضيئة في صدري دومًا، التي كلما تعمّقتُ فيها لم أجد قاعًا، حتى أيقنتُ أنها كَوْن كامل، لا سطح له ولا قاع، ولا أول له ولا آخر.

أنهيتُ دراستي الجامعية، وتركت قريتي واتجهت إلى القاهرة سعيًا لطلب الرزق، وبعد عدة سنوات عدت إلى بلدتي لقضاء أحد أعياد الأضحى بين أهلي، وفي صلاة العيد رأيتُه بعد غياب نحو 10 سنوات. كان يجلس بجواري مباشرةً! تساءلتُ: هل يذكرني؟ لا بأس إن لم يكُن، فهو واحدٌ لا سواه بالنسبة إليّ، أما أنا فواحد من آلاف التلاميذ الذين علّمهم.

أنهينا الصلاة، وقبل أن ألتفت لأسلّم عليه فوجئتُ به يلتفت إليّ باشَّ الوجه، يسلّم ويحتضن وتنطق السعادة من كل ملامحه. كان يذكرني ويذكر مهارتي في اللغة ويذكر مشاغبتي وحُبِّي الدائمَين له. سألني: “بتشتغل إيه الوقتي؟”، قلت: “اشتغلت مدرّس كام شهر، وحاليًّا مراجع لُغوي”، قال: “غريبة! لسه مابقيتش عضو ف مجمع اللغة العربية؟! مش مشكلة، هُمّا الخسرانين”…

سلام الله عليك يا أستاذ هاني حيثما كنت ومتى كنت، إن الطواحين التي رُبطنا بها أصبحَت تذرونا في كل اتجاه، وتُبعِدنا عن الأحِبَّة وتُبعِدهم عنَّا.

كل عامٍ وأنتَ بخير، وكل عامٍ واللغة العربية بخير ما دامَ نَفَسُك يتردّد في عقول وقلوب تلاميذك، كتبه الله لك عَقْد مَحَبَّة وصَكّ غُفران.

اقرأ ايضًا:

رسائل الغياب

لماذا لم تعودي يا ميس شيرين؟ 

المدينة البعيدة

كساحر خفيف اليد

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى