لماذا لم تعودي يا «ميس شيرين»؟!
كنت قد أتممت العاشرة من عمري، في الشهادة الابتدائية كما لقّبت حينها، نحن نبرع في اختيار الألقاب التي تحمّلنا ما لا طاقة لنا به، فلم تكن لدي فكرة عن الفرق بين سنة دراسية وأخرى، فهي نفس السنة، بنفس عدد الشهور ونفس الدراسة، فما الداعي إذًا لكل هذا؟! لا أعلم!
كان ما أعلمه قليل، وقليل جدًا، ومن ضمنه أنني كنت أذهب إلى المدرسة حتى أراها.. ميس شيرين.
قد لا تتذكرني من الأساس، فقد مرّت سنين وسنين، كما أنها فارقتني وأنا طفلة بملامح بريئة لا تمتّ لي بصلة الآن، ولا أنا أيضا أستطيع أن أتذكر ملامحها بشكل كامل، كل ما أتذكّره أنها كانت طويلة، أو ربما كانت هكذا بالنسبة لي في هذا الوقت، بيضاء وشعرها أسود وطويل، وتحبّني، أو هكذا تُبيّن لي.
كانت تدرّس الفرنساوي لطالبات الثانوي فقط، فلم يكن لديها فرصة، كي تعلّمني شيئا، كانت فقط تحبّني دون أن تبني هذا على مستواي الدراسي أو درجات امتحانات الشهر.. كانت فقط تحبني .
وكانت تأتي إليّ في الفصل، وتسأل عني، ما كان كافيا لإحساسي بالتميز، وهو الإحساس الذي لم يكن يفارقني وقتها.
فأنا في مكان لا يتأثر بغيابي، ولا يُنقصه وجودي، وهناك الكثيرون ممن يشبهونني، لكنها استطاعت أن تجعلني أشعر أني مختلفة عنهم، أو هكذا توهمت وقتها.
كنت أذهب إليها بين الحصص، وأطلب منها أن تفك ضفائري اللعينة تلك، لأنني أحب أن يطيّر الهواء شعري والضفيرة تعوقه!
فكانت تلبّي لي رغباتي، بل كانت تمسك بأوراقها وتحركها باتجاه شعري لتختلق هواء في هذا المكان المغلق لإتمام المهمة، كانت نسمات هوائها قليلة، بالكاد تغلق عيني، لكنني كنت أسعد بها، وما إن ننتهي من اللعب حتى تلملم لي شعري، وتعيده كما كان، حتى لا تلحظ أمي هذا وتعاقبني.. مع أن ضفيرتها كانت مختلفة لكن، لم يلحظها أحد.
كنت دائما أقول لها إن فك الضفيرة وإعادة ربطها (سر في بير) يجب ألا يعلمه أحد، مع أن المدرسة كلها كانت تشاهدنا!
حتى أتيت يومًا بأوتوجراف، وطلبت من أصدقائي أن يكتبوا لي بعض الكلمات التذكارية، فقد قررت أن أخلد ذكرياتي ابتداء من هذا العام وكفى ما ضاع بلا تتويج، رغم أن حياتي لم يكن بها ما يستحق التسجيل.
وذهبت إليها وطلبت منها أن تكتب لي شيئا، فكتبت بقلمها الحبر ذي اللون البينك -وليس الأحمر الذي يثير رعبي، كما يفعل الجميع في هذا المكان!- رسالة باللغة الفرنسية، لم أفهم منها سوى اسمي والتاريخ، أما الباقي فكان كالشفرة بالنسبة لي، ورفضت هي أن تترجمه يومها لي، ووعدتني أنها ستفعل ذلك يوما ما.
وودّعتني وذهبت ككل يوم، دون أن أعرف أنه كان الوداع الأخير!
ميس شيرين، لم تحضر مرة ثانية إلى المدرسة، فجأة اختفت، ولم يعلم أحد أين ذهبت، ولا لماذا ذهبت!
أما أنا، فظللت أنتظرها كل يوم، أراقب كل باب يحتمل أن تمر خلاله بيقظة، وأتحين أي لفتة أو حركة، لكنتي لم أرها ثانية للأسف!
الكل كان يأتي إلاها، والناس يتزاحمون ويحيطون بي، ما عداها، فيما لا أريد أنا من كل هؤلاء سواها!
وظللت بضفيرتي، أخشي أن أفك رباطها، فأفشل في إعادته، ظللت بلا نسمات هواء، بلا ميس شيرين! فيما كنت أنظر إلى الرسالة المشفّرة، وأرفض أن أعطيها لأي أحد كي يترجمها لي، فقد وعدتني أنها ستخبرني ما بها يوما، وأنا أصدقها، ولم أكفر يوما بعودتها، ستأتي حتما، لكن عليّ فقط الانتظار.
حتى سمعتهم ذات يوم يتحدثون عن أنها لن تعود ثانية، وأنها رحلت دون وداع، فانقلبت مشاعري رأسا على عقب، وبعد الحنين والانتظار، أصبحت أكرهها، وبت أسأل نفسي كل يوم: لماذا رحلت؟ وهل كانت تعلم أنها راحلة؟ لماذا لم تودعني إذًا؟
وفي خيالي، كنت أستحضر ميس شيرين، وأحاسبها، وأعاقبها أحيانا أمام الفصل بأكمله، وأتخيل أنها ستعود نادمة، تطلب الصفح مني، لكنها أيضا لم تحضر!
ولم أكف عن مراقبة الأبواب، وانتظار حدوث المعجزة، ومع الوقت، تكسرت مشاعر الغضب بداخلي، ولم يعد إلا الحنين وحده!
في النهاية، يئست تماما، وبدأت أحوّل لحظات السعادة إلى ذكريات. كنت أعلم أن ذلك لن يعيدها، لكنه على الأقل، يتوّج علاقتي بها، ويخزنها في منطقة آمنة لا تصل إليها يد النسيان.
وصرت أخشي الانتظار كثيرا، حتى إنني كنت أبكي عندما يتأخر أبي عني في المدرسة، وأتخيل أنه نسيني، وأنه لن يأتي أبدا! ألم تفعل ميس شيرين ذلك؟! فما الذي يمنع غيرها من أن يفعلها؟ّ!
وكل ما استطعت فعله حينها، أن أعاهد نفسي ألا يتكرر اللقاء الأخير أبدا مهما حييت، فأنا لا أريد أن أتألّم هكذا ثانية.
لكني –طبعا!- لم أحافظ على هذا العهد رغم أنفي!
وتكرّرت اللقاءات الأخيرة كثيرا في حياتي، ولم تكن ميس شيرين سوى بداية هذه الحلقة الجهنمية!
لكني ظللت في كل مرة أجهل تماما أن هذا هو اللقاء الأخير، وفي كل مرة يأتي، باردا ومخيفا ولا ميزة له سوى أنه يضيف حجرا جديدا على صدري!
ومن ساعتها وأنا لا أكف أبدًا عن مراقبة الأبواب، والانتظار، وصولا لخيبة الأمل، عندما يأتي الجميع، لا من أنتظره!
لقد أدركت يا ميس شيرين أن اللقاءات الأخيرة لا يعلم أحد ميعادها، مهما انتظر، ومهما توقّع، ومهما تنبّأ, لكن ماذا لو كنا نعلم أن هذا اللقاء هو اللقاء الأخير، ولا نملك من بعده سوى الذكرى؟
فلو كنت أعلم أن هذا هو اللقاء الأخير، لكنت ارتديت أفضل ما عندي، وقلت أجمل ما لدي, كنت سأكف عن العتاب والغضب، وكنت سأطيل النظر والسماع، لعلّي أستطيع أن أدخّر منهما ما يبرد نار الحنين فيما بعد.
لو كنت فقط أعلم.. لجعلته لقاء هادئا خاليا من الفتور والملل والمعتاد, كنت سأطلب منك أن تطيلي الوقت، وتدعي هواء أوراقك يغلق عيني, كنت سأضحك بصوت أعلى، ولم أكن لأشترط عليكِ أن لحظات السعادة تلك هي (سر في بير) بل كنت سأتحدث عنها وأفرح.
لو كنت فقط أعلم..
لكن للأسف، الاستعداد لمثل تلك اللقاءات أمر معقّد ومتعب، يرهق القلب والروح، ويجعلني دائما أعترف بما أهرب منه.. وهو أن دائما هناك.. نهاية!
ورغم هذا، فأنا أبدا لا أعلم أن هذا هو اللقاء الأخير, وكم تمنيت وطلبت من الحياه لو.. فقط لو.. أنها استطاعت أن تمنحنا فرصة ثانية.. فقط فرصة.. لقاء واحدا.. لنقول ما كنا نخشاه، أو نعبّر عما بداخلنا.
لنقول لهم إننا لسنا بهذا السوء، وإنكم كنتم أجمل ما حدث لنا، وأننا نرفض هذه النهاية تماما، لكننا لا نستطيع تغييرها، فهناك دائما ما هو أقوى من مقاومتنا، والوقت ليس حليفنا، وربما كانت لحظات السعادة فيما بيننا قليلة، وربما أيضا أنها كانت لحظات حقيقية، فهناك ما نفتقده من بعدكم، وكأن الأشياء معكم كان لها طعم ما لم نعد نتذوقه، ربما كنتم تضيفون شيئا، أخذتموه بينما ترحلون، وكنا أضعف من أن نتشبث بكم, نعم.. كلنا ضعفاء. كلنا أضعف مما نتصور. نشتاق، لكن نستطيع أن نترك دائما ذكرى جميلة داخلكم.
وعندما أدركتُ كل هذه الحقائق، ظلّت الرسالة المتروكة دائما منك ومن غيرك، شفرة عجزت عن فكها.
لقد كانت كل الرسائل غامضة، لا نفهم أبدا لم ظهروا ولم اختفوا، لم أسعدونا ولم كانوا سبب أحزاننا!
كانت الرسالة تلقى بجانب أخواتها. وأنظر إليهم، وإلى رسالتك ولا أفهم!
ما الحكمة وما الهدف وما الداعي؟!
ذهب الكثيرون في سلام يا ميس شيرين، وأصبحت قلوبنا أشبه بساحات المطارات المخصصة للحظات الوداع تلك، فلا نحن نراقبهم ونلوح لهم في صمت، ولا هم يروننا!
إنهم يرحلون حاملين معهم قلوبنا.. وسعادتنا.. ولا يتبقى لنا منهم سوى الشوق!
لقد حاولت كثيرا يا ميس شيرين أن أجد حلا لنوبات الشوق تلك.. وفكرت لو أن التكنولوجيا تمنحنا دواء مثلا، نأخذ منه عندما نشتاق.. أو لو كان الأمر أكثر بساطة، ومكننا أن نخبرهم أننا مشتاقون لهم!
لكن الأمر –للأسف!- ليس بهذه البساطة، فنحن دائما نتظاهر أننا لا نكترث ولا نبالي، بل إننا نضحك ونرتدي الألوان، ونمارس حياتنا بشكل طبيعي، بل وطبيعي جدا!
وفي نوبات الشوق الشديدة، لا نملك سوى بقايا الذكريات الهزيلة، التي أرهقت من كثرة ذكراها.. فأصبحت تأتي حزينة، وحتى الأماكن يا ميس شيرين، هي أيضا حزينة، والصور، ورائحة الورد تنعدم، وتتبدّل الحال، فكل شيء يتبدل بعد الرحيل، ويزداد وحشة، أو ربما كان كذلك ونحن لم نكن ندرك!
لقد أصبحت قلوبنا ضعيفة وهشّة، تخشى الفراق والرحيل واللقاءات غير المنتظرة.
ورغم أنني يا ميس شيرين أتنبأ، وأحاول جاهدة أن أعلم متى قد يكون اللقاء الأخير.. فإنني أفشل.. وتذهب نبوءاتي إلى الجحيم.
وللأسف، يا ميس شيرين، كانت كل اللقاءات الأخيرة غير المعلومة، تأتي ممن كنت أتوقع أنهم لن يرحلوا أبدا، وما زالت الرسائل في حوزتي بالشفرة نفسها!
لن تعودي يا ميس شيرين، أنا أعلم هذا، ولا غيرك سيعود، ولن تبقى لنا سوى الذكريات.
مثل كل مرّة!
اقرأ أيضًا: