رسائل الغياب (5)
حبيبي..
حبيبتك لم تعد تملك سوى الذاكرة!
ذلك الاختراع المزعج لدرجة أنني وصلت بها إلى نتيجة أن السماء يمكنها استخدامها أحيانا في عقاب الخارجين على الصراط، لكنني لا أملك من الألم سوى أن تكون ذاكرتي صديقتي الوحيدة التي تطاوعني على إعادة ما غاب للأبد، قد لا تسعفني أحيانا حين أطالبها بتذكر تفاصيل التفاصيل في حواراتنا اليومية، فأندم لأنني لم أسجّل حكاوينا بالورقة والقلم، وأحيانا تصيبني بفرح حين أكتشف أنني أحفظ كثيرًا من ردودك عن ظهر قلب، وأصل الآن لمرحلة وعي بكلماتك في مواقف مختلفة.
اكتشفت كثيرًا من الأشياء التي لم أحكها لك، والكثير من الأفلام التي أعجبتني في الماضي ولم أدعُك لرؤيتها من جديد معي.. ماذا كنا نفعل؟ لماذا لم أتذكر أن أروى لك كل تلك الحكايات؟
لا تندهش، فقد كنت أتنفّسك، أرتديك، أحفظك، كنا فوق خط الحب.. والله وحده يعلم.
أكتب لك كثيرًا، لكنني لم أعد أهتم بنشر ما أكتبه خشية على أحزان هؤلاء الطيبين الذين يحزنون لأجلي، ويصلّون لأجلي، ويرسلون لي كلمات هي قدر استطاعتهم في تعزيتي. أتذكر كلماتك حين كنت تخبرني “الناس ملهاش ذنب”.
مررتُ الفترة الماضية بتجربة مريرة، تجربة جديدة في الفقد.
من المؤكد أنك تعرفها، بالـأكيد أخبروك بها قبلنا في عالمك الجديد.
لقد مرض والدك، وصاحبَتنا من جديد تلك الوجوه العاجزة التي لا تجد ما تفعله سوى إطلاق أمنيات مبهمة بالشفاء، والكثير من الهرولة والبكاء والقلق والأطباء والطرقات التي لا تحمل سوى الخذلان .
وجدتني أستعيد كل شيء، وجدتني أطالبه هو الآخر بعدم الرحيل، فابنتي قد تعلّقت به وأنا ما زلت في طور الاحتياج لحكمته وحمايته وصفائه، إلا أنني وجدته يبتسم لي نفس ابتسامتك، وكأنكم جميعا تعرفون مبكرًا!
وجدته يربّت كتفي ويطمئنني تلك الطمأنينة التي تنتهى دائما بنفق مظلم أقف فيه عارية بمفردي!
لقد عشت مع والدك -شبيهك في الكبر كما كنت أردد أمامك- لحظاته الأخيرة، رافقته كما رافقتني عيناه أينما تجوّلت، ورافقتني روحه أينما توجّعت، كلما كنت أسقط مغشيا عليّ في الأيام الماضية، حين أرهق روحى بالبكاء، أستيقظ على بكائه يطالبني بالتمسّك، استجبت لطلبه، إلا أنه لم يستجب لي، وحضرنا جميعا، وكنا على بُعد خطوات منك!
سبحان من جعلنا نلمس ذلك الأبد في لحظة من الزمن بأمره من فوق سبع سموات!
جلست بجانبه أٌقرأ ما تخيّلت أنه سيحميه من الرحيل، كالغريق الذى يتعلّق بقشّة، فكان يستيقظ ويبتسم لي ويحثّني على إكمال أورادي محركّا رأسه بإيجاب لا أفهمه حتى الآن، ثم يعود لآلامه، لقد استشعرت كم كان مصرّا على لقائك، وجدته مستعدا للرحيل بكامل هيئته وبامتنان شديد لما يحدث حوله، لم أره منتصرًا أبدا، كما رأيته في تلك اللحظات.. الآن يحدث ما تمنّاه، لقد أوشك على لقائك.
كان يشكر الله على اقتراب اللحظة، أعلم يا حبيبي أنه لم يكن قد أخبرك وهو في الدنيا أنه أحبك كما لم يحب أب ابنه، هل تتذكر كيف كان يقبّلك في جبينك يوميًا وأنت نائم في رمضان الماضي قبل رحيلك؟
هو لم ينس أيضًا ذلك المشهد الأخير غير المحتمل كما لم أنسه أنا، لا أعرف لحظتها لم انتبهت له هو تحديدًا، رغم الحالة التي كنت أعانيها، لكنني لاحظته حين صاحبك أحبابك في نزولك الأخير من محطة الدنيا، والصعود إلى عالمك الجديد، جوار ربك، ظل هو واقفًا يراقب فقط في هدوء غريب، لم يجر مثلنا أو ينادي عليك أو حتى يقف بجوار هؤلاء، تركهم جميعا ووقف ينظر من شباك الرحيل وهو يتبع نزولك بدقة.
جميعنا انشغل بما لا يصدق، من يبكى ومن يصمت ومن تنادى عليك وتعترف لك بحبّها كما لو كنا في موعد غرام طال انتظاره، فيما كان هو وحده يشاهدنا جميعا في هدوء طير ينتبه لمكان يخفى داخله أولاده، وهو مطمئن للعودة إليهم!
كيف كان يفعل كل تلك الأشياء؟! كيف احتمل دموعي وحزني وحزن والدتك ونداء ابنتك عليك طول الوقت؟!
كل هذا مع ابتسامات لفريدة ومحادثتنا والدعاء لنا، وكأنه أشرف على المشهد ودَعمه واطمأن ثم رحل !
الآن أجاب تساؤلاتي برحيله، فرؤيته وداعك الأخير لم تكن مشهدا سينمائيا، ينتظر صرخة مخرج لإنهائه، بل كان وداعًا مؤقتًا لشخص يردد في سرّه “إلى لقاء قريب”!
كان يحمل يقينا ودودا بالذهاب إليك، قال لي في إحدى المرات التي وجدني فيها أبكي بمفردي، في غياب الابنة والجدّة: “لقد أعطيتك أفضل ما لدي ولكن لله رغبة أخرى”.
أُصدِقك الحديث يا حبيبي. والدك فتح لي طاقة جديدة على الاندهاش، عشت معه كثيرًا من المواقف التي استشعرت لثوانٍ أنها أكبر من طاقتي وقدراتي.
هل كنت تعرف كل ذلك حين أتيتني قبل غياب والدك بأسابيع وأنت حزين لتخبرني بأنك “رحلت”؟ “أنا مُت يا نسمة”. للمرة الأولى تذكّرني بذلك، فقد اعتدت عند مجيئك أن تؤكد لي أنك تعيش وتراني وتحبّني وتضحك وتغنّي و..
هل قابلته إذًا؟ أم لم يأت بعد موعد اللقاء؟ ألم يؤذن لكم؟
أتخيل الآن مشهد اللقاء وحرارته، ولعلّ ما عند الله أفضل .
هل كنت بالفعل تقف أمامنا حين ناداني قبل خروج السرّ، وهو يشير لي ويردد: “الواد”.
لماذا خصّني بتلك العبارة؟ هل علم لحظتها كم أحبّك؟ هل رآك؟ أم أنك طالبته بمحادثتي؟ بماذا كنت تحدّثه وهو يصرّ أن أنظر في ذلك الاتجاه؟ لماذا أوصاني على والدتك كما فعلت أنت؟
هل تعلم أنني دخلت حجرته في اللحظات الأخيرة وفتّشت عنك؟!
ظللتُ أنظر في كل الاتجاهات وأخمّن إذا كان مسموحا بوجودك، فأي الأماكن كنت ستفضل الوقوف فيها، علّ عيوننا تلتقي!
هاني.. لقد وقفت في نفس المكان عند نزول والدك إلى عالمه الجديد، فأيقنت لحظتها أن عليّ اجتياز كل شيء ما عدا “الله” الذي ينشد في العالمين القلب النقي ليكتمل مشهد الرحيل بكامل أسراره.
ليت عمّي يجلس معك الآن، ليطلعك على أخبارنا. ويؤنس وحشتك، أخبره أن فريدة استطاعت أن تناديني أخيرا باسمي كاملا، كما كان يريد، وأنها تدلّلني كما كان يفعل “مالك يا نسّوم؟”.
حتّى نلتقي.
اقرأ أيضًا: