كيف غيّر الشيبسي بالخل حياتي!
كنت طفلة صغيرة لم يتعد عمرها 8 سنوات، أحب الشيبسي أكثر من الشوكولاتة، وأفضل الذي بنكهة الخل.
الحقيقة أني لم أفهم أبدًا سر عشقي للشيبسي، ربما لأنه يجعلني أغمز بعيني وأنا أتناوله! ربما للعادات الغريبة التي تصاحب أكله، فقد كنت أستخدم لساني في تناوله، وبعد كل شريحة، أُخرج لساني من فمي، وألملم البقايا من على شفتي! ما يتسبب طبعا في حساسية حول فمي، وتورم شفتي، وما يتبع ذلك من الذهاب لطبيب الجلدية!
ومن هنا بدأ يظهر في حياتي هذا العملاق، الطويل العريض الأصلع الضخم، صاحب الصوت الأجش، دكتور هشام الصحار، كان صديقا لأبي، ومن ثم فإن احتمالية تغييره كانت مستحيلة، فالدكتور هشام أصبح واقعا لا مفر منه، واقعا مؤلما جديدا يدخل حياتي ويتفوق على واقع الذهاب إلى المدرسة وكتابة الواجب، فالالتزام بالدواء وفي مواعيد محددة أمر معقد وممل، لا أحبه، وأعتقد أنني لم أحب يوما أي التزام من الأساس، لا أحب القيود، ولا أحب أن يُملي عليّ أحدٌ ما عليّ فعله، فصوتي من دماغي، وكفى المؤمنين شر القتال.
كنا نذهب إليه أنا وأبي، بعد حوار طويل يدور بينهما في التليفون، وحجز الموعد المشئوم!
ورغم انتظامي على علاج الدكتور هشام بروتينية، كنت آكل الشيبسي بنفس الطريقة، وبلا أي تغيير، وفي قرارة نفسي أقول إنني لن أتوقف عن ذلك، لن أتوقف أبدا، وفي كل مرة تزيد وتيرة الزيارات، وتتكدس الأدوية في غرفتي!
حتي جاء لك اليوم. كنت جالسة أمام والدي في عيادته، ألعب بقدمي في الهواء، ومستمتعة جدا بفشل الدكتور هشام في علاجي، أبادله نظرات التحدي، وأنا اقول له بلا صوت “برضه هطلع لساني”.
فيما يجلس هو على مكتبه، مرتديا البالطو الأبيض، الذي يبدو لك ملائكيا. وبعد حوار طويل حول المشكلة التي لن تنتهي إلا بتغيير العادة. قام الدكتور هشام من مكانه، ووقف جانبي، وانخفض لمستواي.
هذا العملاق سيأكلني بالتأكيد، أو سيضربني! أنا خائفة.. خائفة جدا!
أنظر إلى أبي، وفي عيني جملة “ماتسبهوش ياكلني أو يعضني والنبي”.
لكنه خيّب ظني، وأمسك رأسي، ثم فمي، قبل أن ينظر في عيني، ويقول بصوته الأجش “لو طلّعتي لسانك برّه تاني وإنتي بتاكلي، هقطعهولك، فاهمة؟ هقطعهولك”.
ارتعبت، وخفت كثيرا وجدا، وكان الدكتور هشام يأتي إليّ ليلا في الحلم، واقفا جوار كيس الشيبسي، فأبتعد عنه، وأصبحت أخاف من الدكتور هشام، بعدما كنت أخاف من الحرامي المنتظر ليلا!
ولأنني كنت أصغر من أن أتفهم هذا التهديد، امتنعت عن أكل الشيبسي فترة لا بأس بها، بل إنني كنت أخشى أن أفتح فمي من الأساس لأي شيء. وأحيانا كنت أقبص أسناني على بعضها لأحافظ على حياة لساني لأطول فترة ممكنة!
ابتعدت عن الشيبسي والمقصات وكنت أفكر كثيرا في حالي، لو أخفقت ذات مرة وأكلت الشيبسي، كيف سأعيش بلا لسان! كيف سأتحدث! لن أستطيع أن أقول لماما إنني جائعة، أو لبابا إنني متعبة، ولا أستطيع الذهاب للمدرسة. إذا أصبحت بلا لسان كيف أتجه إلى التمثيل؟ كيف أصبح فنانة؟ هل أستخدم الإشارات! هل يكون مستقبلي كتلك المذيعة المحجّبة السمينة التي تتوسط دائرة في أسفل الشاشة وتستخدم الإشارات ليفهمها الصم والبكم؟
أصابني الصمت فترة طويلة جدا، حتى توالت الأيام، وبدأت الحساسية في التلاشي، ولم تصبني مرة أخرى. شعر بابا أن دكتور هشام ساحر فعلا، فعلاجه آتى ثماره في وقت قصير. دون أن يعلم أن علاج في منتهى القسوة!
ومرّ المزيد من الأيام، وازدادت قامتي طولا، وعمري سنوات، لأدرك أن دكتور هشام لم يكن جادًا، وأنه كان مجرد تهديد!
لكنني يا دكتور هشام، صدّقت هذا التهديد، وعشت طفولتي أخشى أكل الشيبسي، لقد انتصرتَ عليّ في معركة غير عادلة، وحتى بعد أن كبرتُ، لم تغادر ذاكراتي وذكرياتي.
واكتشفت يا دكتور هشام أنه رغم عمري الذي يتزايد يوما بعد يوم، وخبرتي في التمييز بين الهزار والجد والتهديد، أنني أخاف، أخاف وأرتعب بشدة، وكما كنت أقبض على أسناني بقوة لأحافظ على حياة لساني، أقبض الآن على قلبي وأفكاري، وأتمنى لو أنني أستطيع أن أقبض على أحبابي، وأسجنهم في مكان ما، وأفترض أن اللحظات الحلوة، هي الأخرى طفلة ساذجة مثلي تصدق التهديد، فأصطحب شبحك إليها، وأمسك بها وأقول لها “لو مشيتي هقطع لسانك”.
لكن للأسف يا دكتور هشام، استطعتُ أن أحافظ على لساني فقط من القطع، فيما أخفقت في كل ما عداه! وتمنيت أن يعود بي الزمن، وأخرج من عيادتك بعد هذا المشهد، وأذهب لأشتري كيس شيبسي بالخل، من الحجم العائلي، وآكله أمامك، ثم أُخرج لساني، وألملم بقايا الطعم اللذيذ من على شفتي، وأصاب بالحساسية مجددا، لأثبت لك أنك لن تستطيع أن تفعل شيئا، وأنك مجرّد دكتور عملاق أصلع بصوت أجش، تشبه تماما لحظات السعادة التي وعدتني أنها لن ترحل.. ورحلت، وتشبه الطعام وهو ينتهي، ولحظات الوداع وهي تذبحنا بسكين باردة، وكل الأشياء التي استمتعتُ بسذاجتي وأنا أصدقها، وأضعت من عمري الكثير على أعتابها، قبل أن تذهب وترحل وتتركني وحدي.
وحتى إذا كنتُ قد امتنعت عن أكل الشيبسي بالخل، فعزائي أنني آكل الآن السلطة بالخل.
عفوا يا دكتور هشام، فلن أتوقف أبدًا عن تناول الخل، والغمز بعيني.