المنطقة الحرة

تأملات لغوية في «الملوخية»

كريم أبو ضحى

في حياة كل أعزب، العديد من المغامرات والتحديات، منها ما هو محمودة عقباه، ومنها غير ذلك!

ولعل أبرز هذه التحديات، تدبير أمر الغذاء، وتناول الطعام الصحي والشهي في آن واحد، ولسنا هنا في محل مناقشة القدرة على الكسب  المعيشي أو مستوى الطعام ومدى رفاهيته، فأنا أتحدث عما هو أبسط من ذلك، وهو حق أي أعزب، يعيش وحيدا لأي سبب، في الحصول على طعام منزلي، أيا كان نوعه، أو تكلفته، أو مكوناته، المهم أن يكون معدا منزليا على يد خبيرة ماهرة، وهذا ما يفتقر إليه معظم -إن لم يكن كل- الشباب العزاب، إلا من رحم ربي، أو من ملّ من أكل “الديليفري” والوجبات سابقة التحضير غالية التكاليف وغير الصحية دائما.

ومن هنا أخذت على نفسي عهدا أن أتعلم فنون الطهي، حتى إن كلفني الأمر المبيت جائعا خالي البطن في تلك المرات العصيبة التي حاولت فيها وفشلت، وكان نتاج محاولتي تركيبة كيميائية مريبة من بعض العناصر الغذائية والمكونات الطبيعية -التي لم تعد كذلك- بعدما امتدت إليها يد العبث خاصتي!

وبعد عدة محاولات، منها الفاشلة أحيانا، والباهرة أحيانا أخرى، وتلك التي قررت أنها ناجحة لكن على مضض، أفلحت في النهاية أن أتخصص في عدة أكلات، معظمها مشهور بين جمهور العزاب، لسهولة تحضيرها وعدم احتياجها لأي خبرة أو مهارة مسبقة، فصينية البطاطس في الفرن لا تحتاج أي مهارة، فما المستحيل في تقطيع بعض الخضروات بأي شكل يتسنّى لك، متناسقا أو غير متناسق، ومزجها سويا مع بعض الماء والملح وعصير الطماطم، وتركها في الفرن حتى تحترق؟ فهي حتى باحتراقها تظل قابلة للأكل. كما مررت بعدة خبرات للحصول على مهارات بسيطة لعمل الأرز والسلطات وغيرها، ولكن..

ظلّت المولوخية هاجسي الأكبر والتحدي الأعظم وعنوان فشلي الدائم رغم محاولاتي المستميتة معها، فهي لم تكن تخرج معي إلا مائعة لا طعم لها ولا قوام، أو كثيرة الثوم لا قدرة لبشري على تناولها، أو غير متّحدة القوام كاتحاد الزيت بالماء، إلى غير ذلك من أشكال الفشل الدائم والمستمر!

 في النهاية، حاولت سبر أغوار هذه اللئيمة، والبحث في تاريخها، والتقصي عن كل ما يخصها.

بدأت بالمعنى الاصطلاحي واللغوي للكلمة نفسها “الملوخية”، في المعاجم العربية وبين العامة والخاصة والطهاة وسيدات البيوت وكل من سمع أو مر بها أو كتب وقرأ عنها أو أكل وشرب عليها ونجح في تناولها على هيئتها الصحيحة المثالية وليست تلك الهيئة المريبة الشنيعة الماكرة التي تواجهني بها دائما عند كل لقاء.

في البداية خمنت أن ملوخية أقرب ما تكون إلى اسم منسوب في صيغة المؤنث. فالمعلوم أن الاسم المنسوب هو كل اسم ألحقت بآخره ياء مشددة مكسور ما قبلها، للدلالة على نسب شيء لآخر، وتضاف إليه تاء التأنيث في نهايته إذا كان المنسوب مؤنثا، لكن لو افترضنا ذلك، فهذا يعني -حسب القاعدة- أن الكلمة مقسّمة بهذا الشكل (ملوخ) وهو الاسم المنسوب إليه، والياء المشددة “يّ” علامة النسب، التي تجعله اسما منسوبا، و”ة” التأنيث، التي تدل على جنس الكلمة.

 لكن مهلا، الياء المشددة ممكن فعلا أن تكون للنسب، والتاء للتأنيث، لكن ماذا عن “ملوخ”؟! أهي كلمة عربية فعلا وتعني أي شيء؟ فكما هو معلوم لا بدّ للمنسوب إليه أن يكون شيئا ذا معنى، وهو ما لا يتوافر هنا.

لكن انتظر، ففي القواعد الخاصة بالنسب إلى اسم ما، هناك حالة يتم فها حذف تاء التأنيث من الاسم المنسوب إليه، قبل النسب إليه، كما هو الحال في مكة التي تصبح بعد النسب إليها مكيّ ومكيّة، حيث حذفت التاء من مكة وأصبحت “مك” ثم أضفنا ياء النسب المشددة لتصبح مكيّ للمذكر، وأضفنا ياء النسب المشددة وتاء التأنيث لتصبح مكيّة لصيغة المؤنث. فهل معني ذلك أن الملوخية ليس أصلها” ملوخ” وإنما “ملوخة”؟

أنا أعرف “الملوحة” التي تصنع في مصر من السمك النيئ الميّت المتحلل الذي لا أطيق له طمعا ولا رائحة، لكن ليس هناك ما يسمّى بالملوخة أبدا، وليس لها أي معنى على الإطلاق!

ماذا لو كان الاسم المنسوب في ملوخية أصله منتهٍ بياء مشدّدة بعد حرفين، كعلي، أو مشددة بعد ثلاثة أو أكثر، ككرسي؟ ففي الأولى نحذف الياء المشددة ونضيف مكانها واوا، ثم نضيف ياء النسب فتصبح علي علويا، والثانية أي ياء مشددة بعد ثلاثة أحرف أو أكثر، نحذف الياء نهائيا، ونضيف ياء النسب مباشرة، وأما لو كان الاسم المنسوب ينتهي بياء مشددة قبلها حرف واحد فقط، كحي، نبقي على الياء بعد إزالة التشديد، ونضيف واوا قبل ياء النسب لتصير حيوي.

هل لهذا أي علاقة بالملوخية، أو يستدل به على أن الملوخية اسم منسوب؟

لا أبدا، نهائيا.. أترون كم هي لئيمة ومخادعة؟!

لا أجد لها أي معنى في كل قواعد المنسوب، حتى النسب للاسم المقصور والممدود، ولا المنقوص ولا أي شيء يخص قواعد النسب المعترف بها، وغير المعترف بها كنسب أحمد عز لأولاده من زينة!

إذًا فكلمة الملوخية ليس لها أي علاقة بالنسب وقواعده في اللغة العربية، بل هي ليست عربية أساسا، فبعد بحث مضنٍ، وجدت الحل والخبر اليقين عند قدماء المصريين، حيث تذكر الموسوعة الحرة “ويكيبيديا” أن الملوخية نبات قديم منذ عهد الفراعنة، كان يسمّى “خيّة”، واعتقد القدماء أنها نبتة سامة، وعندما احتل الهكسوس مصر، وهدموا وطمسوا معالم الحضارة الفرعونية، أجبروا المصريين على تناولها، وكانوا يأمرونهم باللفظ “ملو – خية” أي كلوا خية، فتناولها المصريون وظنوا أنهم ميتون لا محالة، لكن اكتشفوا أنها غير سامة، وأنها تصلح للأكل.

وللحديث بقية بعيدا عن الملوخية في مقال آخر في رحاب اللغة العربية.

 

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى