الطوق والفراشة
ينظر إلى الطوق المنمنم صنعة يده، تلتمع عيناه فخرا، وهما تسقطان بناظريه على الزخارف المذهبة التي نقشها على دورانه، ثم يصيح فرحا: كم أنت بارع وسخي يا يوسف. لقد تفوّقت على نفسك هذه المرة أيضًا. وهذا ما أتوقعه عادة مني!
تسأله الفراشة إن كان باستطاعتها أن تفتح عينيها الآن، فيجيبها بأنه يضع اللمسات الأخيرة.
تتأمل الفراشة بعينيها المغمضتين، الظلام الذي يغمرها من كل جانب، لقد قضت عمرا بأكمله في شرنقة لزجة مظلمة، حتى أتى يوسف وقشّرها عنها، ثم أمرها بإغماض عينيها بإحكام، ريثما ينتهي من إنهاء المفاجأة التي يعدّها لها. كم أنت بارع وسخي يا يوسف، وكم أنا سعيدة الحظ بك!
- الآن.. بإمكانك أن تفتحي عينيك.
على مهل، تفتح الفراشة البكر عينيها ليدركهما النور للمرة الأولى في حياتها، تسير بأقدامها الصغيرة خطوتين، ثم تسقط، كل هذا الضوء الذي يغمرها كما لم يفعل من قبل، كل هذه الألوان التي تخطف بصرها، ثم هذا الطوق. الطوق المذهب الذي يلتف حول عنقها. كم هو برّاق. كم هي رائعة ألوانه! كما هي رائعة جميع الألوان التي لم تر مثلها سلفا!
تنظر إلى يوسف بحب، ثم تشكره على كل شيء بذله من أجلها.
كل يوم كان يوسف يمسك الحبل المتدلّي من طرف طوقها المذهب، يسير في المقدمة وهي تتبعه بأقدام صغيرة متعبة من طول الطريق، حتى يصلا إلى مطعم فخم، يقدم أغلى أنواع الطعام، فيدخل الخدم عليهما بوجوه شاحبة. يرصّصون أطباق وليمة كاملة، ثم ينصرفون.
في الأيام الأولى كانت الفراشة في غاية الانبهار بكل شيء وبثريّات المطعم الكريستالية العملاقة، وروائح الأطعمة التي تلاحق أنفاسها، بينما منظرها الطازج الشهي يحبس أنفاسها.
لكن مع الوقت، اعتادت عيناها وأنفاسها كل هذا الصعود والانخفاض، وبينما هي ذات منخفض، وقعت عيناها على وجه الخادم الممتقع، حتى إذا دققت في عينيه، وجدتهما ينضخان خوفا وحقدا وانكسارا، بينما ترقبان العزيز يوسف ثم.. ترقبانها!
تحدّثت إلى يوسف الذي كان يمنحها المجال للحديث في أوقات كثيرة، وعندما أفضت إليه بما رأت، لم تجد لديه من الذعر ما لديها، وفي المقابل أخبرها أنها طبيعة الخدم وطبيعة الحال، وطلب منها ألا تلقي بالا لكل ما تراه، فهو يجيد التعامل مع كل هذه الأمور، ثم غمزلها قائلا في مكر: أنسيتِ كم أنا بارع وسخيّ يا جميلتي!
لم تجد الفراشة أمامها سوى الاستسلام لقول يوسف، ولكن عقلها الصغير لم يستطع الهمود داخل رأسها!
أصبحت نظرات الخدم تجلد روحها عند كل وجبة، فتود لو أن الثريا العملاقة تسقط من سماء الغرفة عليها ويوسف والطعام، حتى ينفجر ويتبعثر كل شيء، أو أن يبتلعها الكرسي العملاق التي لا تشغل من فراغه إلا مليمترا واحدا، بينما الخدم واقفون على خدمتهما ليل نهار.
تسأل يوسف، فيخبرها أنها طبيعة الخدم، وطبيعة الحال، ويزيد أنه لا ينسى أبدا أن يدخل على قلبهم السرور من آن لآخر، فيهبهم بواقي الطعام، ويتركهم ينامون بعد أن تنتهي فترات العمل!
ثم يغمز لها قائلا في مكر: أنسيتِ كم أنا بارع وسخي يا جميلتي!
بعد وقت طويل طويل من عدم الاقتناع وقلة الحيلة، توقفت الفراشة عن النظر إلى الطعام، أو الثريا، أو يوسف، أو الخدم. توقفت تماما عن النظر إلى أي شيء حولها.
وبينما تسير بلا روح ذات ليلة، مشغولة بنفسها، سقطت متعثرة بحبل طوقها المذهب، فانكسرت قدمها، أخذت تنادي يوسف الذي كان يلهو مع أصدقائه دونها، ولكنه لم يسمعها، فأخذت تحاول الاعتماد على قدمها الأخرى، لكنها كانت أضعف من أن تحملها، حتى انقطع أملها في النجاة.
وفجأة وجدت نفسها ترتفع عن الأرض، أخذت تبحث بعينيها عن الشخص الذي رفعها لتشكره، لكنها لم تجد أحدًا. ووجدت الجناحين بظهرها هما من يرفعانها، هبطت إلى الأرض ثانية بحذر، وأعاصير الأفكار تعصف بعقلها، أليس هذان الجناحان اللذان أخبرها يوسف أنهما شيء من زينتها، ولا نفع لهما غير ذلك؟!
لماذا يجعلني أسير خلفه على قدمي، ولا أرى سوى ظهره كل هذا الوقت، إن كنت قادرة على الطيران؟!
لماذا لم يخبرني، ثم يترك لي الخيار؟! ولماذا لا أسير بجانبه؟! أيخشى أن أقاسمه الطريق؟!
ولماذا يعدّ لي كل هذه الولائم وأنا لا آكل منها إلا الفتات، فأنا مجرد فراشة؟!
ولماذا يلفّني بهذا الطوق المذهب الذي أدمى رقبتي؟!
وإن كان تقييده لي حتى يضمن بقائي معه، وله وحده، فلماذا يتركني معظم الوقت وحيدة، أو يلهيني ببعض الألعاب حتى يبقى هو مع رفاقه؟! ولماذا يلعب بالنيران معهم طول الوقت؟!
لقد رجوته كثيرا أن يكفّ عن اللعاب بها، فإن كان هو غلاما، فلربما تحرق نيرانها يده، وإن كنت أنا فراشة فلسوف أحترق عن آخرى بمجرد هبوها!
لكنه يجد أن للنار وجهين، فوجه ينير للناس طرقهم، ويبث في نفوسهم الأمان، ويطهو طعامهم فيطيّبه، كما أنه يقوم بتدفئتهم. بينما الوجه الآخر قد يحرق كل شيء وهذا ما لا يريده هو.
أقول له: لكنكم صغار يا يوسف، صغار جدا أنت وجميع أصدقائك، ولا راشد بينكم، أنتم جميعا منبهرون بوهج النيران التي تسطوا على أعينكم وعقولكم، وبمنتهى الطفولة لا تعترفون بهذا!
لربما أشعلت النار التي بأيديكم الحطب عفوا، فتدفّأ الآخرون به، ووضعوا فوق الحطب آنيتهم، فأنضجوا بعض الطعام وطيبوه واستلذوا به. ولكنه عرض من أعراض النار التي أنتم غير خبراء بها، الجميع يخشاك أنت وأصدقاءك أكثر مما يشكرون لكم!
يأخذون الخير القليل الذي تتسبب به النيران عفوا، بينما هي تحترق، ثم يبتعدون عنكم كثيرا حتى لا تحرقونهم.
أنا أخشاك يا يوسف، وأخشى نيرانك، وأخشى هبوها كلما اقترب!
إن كنت حقا تريد نفع الآخرين، ولست مأسورًا بوهجها، فدع عنك شرورها وكل شيء.
يمكنك إسعاد الآخرين دونها، ربما سوف تتعب أكثر وأنت تصعد الجبل لتترك أطعمتهم للشمس حتى تنضجها، أو وأنت تجز فرو الخرفان وتغزلها حتى تصنع لهم ما يقيهم البرد ويدفّئهم، ولكنهم سيحبونك حبا جما، إن كنت تفعل كل ذلك لهم، دون أن تحرقهم النيران التي بيدك.
وستختفي حينها نظرة الخوف والحقد بعيني الخادم. أنا لا أقتنع أن الخوف والحقد طبيعة أي شيء، إلا إذا أوقدهما أولا، كمثل نيرانك التي لا تشتعل من تلقاء نفسها!
أرجوك أخمدها وأخمدهم، ليخمد كل شيء ليس طيبا، ولست أحب أن أشقيك أو أشقى معك، ولكنه المكتوب أيها العزيز يوسف، فنحن جميعا صغار بلا راشد يضع الأشياء في مقامها ويسهّل علينا العيش.
ينظر لها يوسف بشيء من الاستخفاف ثم يقول: ما كل هذا الهراء الذي تتفوهين به؟! أنسيتِ كم أنا بارع وسخي؟!
ثم يمسك طرف الحبل ويجرّها خلفه، ولكنها لا تستطيع السير بقدمها، فتفرد جناحيها وتطير خلفه، يراهما يوسف فيصيبه الهلع، ويظل يصرخ في وجه الفراشة، حتى تكاد أن تتمزق من شدة صوته!
تحاول أن تخبره عن قدمها التي انكسرت بينما هو غائب مع أصحابه، تحاول أن تخبره أنها أصبحت عاجزة عن السير، وأن الطوق المذهب ظل يعيقها ويعيقها ويعطلها عن السير، حتى أصبحت تبغضه، حاولت أن تخبره أنها تريد أن تسير معه جنبا إلى جنب، وهو مطفئ النيران، حتى تبلغ مأمنها معه.
ثم تشير نحو السماء، فيصمت كل شيء. إن الذي شكلنا ووهبنا للحياة لم يضع في رقابنا أطواقا حتى يضمن نجاتنا وعودتنا إليه (رغم حبه لنا).
نظر لها يوسف ثم قال: من أنتِ؟ أنا لم أعد أعرفك! تريدين فك الطوق. هاته، إنه صنعي أنا. ذهبي أنا. خيري أنا. اذهبي.
عالم ملون واسع. أشخاص غاية في اللطف. يمدّون أصابعهم برقة لتحمل الفراشة، لا أحد يحاول تقييدها، أو يرغمها على حضور الولائم الزائفة، الجميع يسلك الطريق الوعر من أجل الحياة، بلا نيران يرهبون بها بعضهم. بالطبع هناك بعض المرضى الذين يحبون خنق الفراشات وتمزيق أجنحتهم، لكن عدا هؤلاء، فالجميع غاية في الرقة وكرم المشاعر معها.
ولكنهم عادة وبعد عدة أمتار من السير بصحبتها، يعتذرون إليها بمنتهى الذوق، وينصرفون لأحوالهم. ثم لا تراهم مجددا!
كان القانون خارج عالم يوسف. أن استمتعي بالحاضر، لا تنظري خلفك أبدا، ولا تفكري في الغد.
كان الجميع ينظر تحت أقدامه، وتحت أقدامه فقط!
وبعدما ينفض الجميع من حولها، تعود وحيدة كما كانت في البداية، فيبدأ عقلها الذي لا يهمد أبدا في العمل. تتذكر يوسف. يوسف كان شديد الغباء والطيش، يؤذيها في اليوم مئة مرة بقصد أو دون قصد، كان أنانيا إلى أقصى درجة، ولا يفهم حرفا مما تقول. كل ما كان يسمعه هو (كم أنت بارع وسخي يا يوسف!). لم يكن يعرف ما تحتاجه، ولا يحاول معرفته، يضع أطنانًا من الطعام أمامها تكفيها حتى الممات، ويدبّر أموالا لعلاجها حتى آخر يوم في عمرها، وومضات نادرة تذكرها من حياتها معه، كان يرى بها عينيها في ضوء الشمس فيمتدح جمال لونهما.
تصمت الفراشة للحظات. ثم تردف:
ربما يكون يوسف قد لمح حقيقتي خلسة وسط كل هذا الصخب الذي يحيط نفسه به. ربما رآني حقيقة، مرة أو اثنتين، لكنه آثر الضوضاء عليّ، فظل يطمسني حتى لا يراني إلا ظلا له. لقد أحببت تناسي الآخرين للماضي ورؤيتهم للحاضر، ولكنني لم أحب تعاميهم عن المستقبل، المستقبل الذي لم أكن لأفكر به لحظة في حضرة يوسف. ليس من أجل ولائمه ولا أمواله الطائلة، إنما من أجل اهتمامه فقط!
في الحقيقة كل شيء كان يفعله أو يلمسه يوسف بمثابة السلاح ذي الحدين. طوقه، ولائمه، سجنه الفخم، أنانيته، كل هذا كان فرطا في الحماية والخوف!
لا يهم إن كانت النيران سوف تحرقه أو تحرقني أو تحرق كل شيء. المهم فقط هو أنه يحمي الجميع بطريقته الخاصة، بمنتهى الطيش والأنانية.
لطالما أحببت كونه طفلا، يخبّئ نفسه خلف أجنحتي الصغيرة بين الحين والآخر كلما افتقد أمه. لطالما أحببت روحه النقية الخصبة. ولطالما أحببت هذا الطهر بداخله.
ولكم أشفق على نصفه الأجمل من نصفه المنبهر بنفسه والنيران. هو لن يتخلى يوما عن وجه النيران القبيح لوجود وجهها الآخر الجيد، كما لن يتخلّى عن نصفه المختال من أجل نصفه الآخر.
أما أنا، فلربما كتب عليَّ الطريق الوعر. كما كتب عليَّ زمان بلا راشد يقوده، فكلانا زمن هائم بمفرده نحو الجبال، بلا غد له.