ضاد

في رحاب العم سام «5» (Go Gators)

محمد علاء

منذ وطئت قدماي مدينة جينزفيل، شمال ولاية فلوريدا الجنوبية مطلع الصيف الماضي، كان أكثر ما لفت انتباهي واستفز فضولي هو الـ”جاتورز Gators”  فهذه الكلمة ذات وقع خاص في تلك المدينة الهادئة الخضراء، ولا يوجد مكان يخلو من تلك الكلمة مع شعار التمساح الشهير، ولا شارع دون محل لبيع منتجات الجاتورز، ولا سوق أو ماركت بلا قسم خاص لكل ما يتعلق بهم، بين كل 10 أشخاص يسيرون حولك تجد 9 على الأقل يرتدون شيئًا مرتبطًا بالجاتورز، الاسم في كل مكان، والشعار ماركة مسجلة في كل شيء، حتى في الأوراق الرسمية والمسميات الحكومية!

ولكن من الجاتورز؟

إنه فريق لكرة القدم الأمريكية موجود بتلك المدينة ويمثلون الولاية، وتحولوا مع الأيام إلى فخر تلك المدينة التي تنتج مشروب الطاقة العالمي “Gatorade” المنتشر في ملاعب الدنيا وأيضًا باسم الجاتورز، وأصبح الجاتورز هو الرمز.

وبعد انتظار 3 أشهر جاء اليوم الموعود، إنه يوم السبت 5 سبتمبر، حيث صافرة البداية لموسم الجاتورز الجديد، يوم العيد والبهجة والسعادة والفخر والتعبير عن الحب والانتماء، فبعد أن كانت جينزفيل هي المدينة الخضراء، صارت في هذا اليوم مدينة الأزرق والبرتقالي، حيث ألوان الجاتورز الشهيرة هنا.

عندما تسير في شوارع المدينة ترى احتفالية منذ الصباح الباكر، فالحدائق ممتلئة بالشباب من الجنسين وبالرجال والسيدات، الكبار والصغار جاؤوا من كل حدب وصوب للاحتفاء بالجاتورز، والجميع يتزين بالأزرق والبرتقالي، حفلات الشواء “باربكيو” في كل مكان، والتجمعات تبعث على البهجة، لتجد نفسك دون أن تشعر متعلقًا بالجاتورز، ومساندًا لهم حتى دون أن تراهم أو تعرفهم.

وسط كل تلك البهجة والألوان والاحتفالات، كان هناك أمر آخر هو الأكثر أهميةً بالنسبة لي، وإثارةً لفضولي، فرغم أن اليوم استثنائي بكل المقاييس، لم ألحظ أي تحرك غير معتاد للشرطة في شوارع المدينة، ومع أن منزلي يبعد عن ملعب المباراة بأمتار، لم أشاهد عسكري أمن مركزي واحد في الطرقات، لم يتوقف كوبري أكتوبر من مطلعه في الدقي حتى نهايته عند طريق النصر منذ الصباح، ولم يعلن صلاح سالم إصابته بالشلل بدءًا من كوبري الملك الصالح وصولاً للمطار، ولم يعلن حي مدينة نصر والأحياء المجاورة حالة الطوارئ القصوى وكأننا على أعتاب حرب لا مباراة رياضية.

الطرق كانت تسير في سهولة ويسر معتاد دون أي اختلاف عن باقي الأيام، وأتوبيسات النقل العام استمرت في خطوط سيرها الطبيعية بمواعيدها المحددة سلفًا، بلا أي استثناءات، ووجدت نفسي وأنا داخل أحدها، أتذكر الأيام الخوالي، يوم أمرنا العساكر -تنفيذا لأوامر قادتهم- بالوقوف صفا على سور استاد الكلية الحربية لـ4 ساعات من أجل الدخول لمشاهدة الزمالك في إحدى مبارياته العادية بالدوري. تذكرت أتوبيس لاعبي المنتخب التونسي وهو مجمد إلى جواري على طريق التجمع عاجزًا عن دخول استاد الدفاع الجوي لمواجهة مصر، لمدة ساعة وربع، ولم يستطع المرور حتى قبل انطلاق المباراة بـ20 دقيقة!

عدت إلى المنزل مقررًا مشاهدة المباراة عبر التلفاز ومحاكاة المجتمع والتفاعل مع اهتماماته رغم ثقل دم تلك الرياضة وافتقارها لأي متعة أو فنيات، وكان في انتظاري مع بدء المباراة مفاجآت جديدة.

أولى تلك المفاجآت الملعب المكتظ بأكثر من 50 ألف مشجع، ولا يوجد به مكان لقدم، وهم من تكفلوا بكل شيء بدءًا من صف السيارات وصولاً لتنظيم الدخول والحفاظ على نظافة الشوارع دون أي طوارئ في أي شيء، أما المفاجأة الأهم بالنسبة لي فكانت في معلّق المباراة، فقد أنصتّ له جيدًا لعلي أسمع توجيه شكر إلى السيد مدير أمن جينزفيل أو السيد المحافظ أو السيد منظم المباراة أو السيد وزير الداخلية أو السيد رئيس اتحاد اللعبة أو السيد وزير الرياضة أو أي سيد، على التنظيم الراقي واستتباب الأمن، فلم أجد!

وخلال الاستوديو التحليلي لم أجد أي مداخلة مع أحد من هؤلاء السادة لشرح دوره البطولي في إخراج الحدث بهذا الوجه المشرف لأمريكا أمام العالم، كما لم أجد مداخلة مع زوج خالة أو ابن عمة أحد اللاعبين ليروي نوادره مع النجم خلال رحلتهما الأخيرة إلى جمصة.

انتهت المباراة وانتصر الجاتورز وابتهج المشجعون وبقيت الأسئلة والدروس ليس في التنظيم الرياضي وحده ولكن في أي تنظيم لا يحتاج لشيء مكلف، وإنما إلى ثقافة ورؤية وتوزيع صحيح للأدوار، وفهم كل شخص لمسؤولياته قبل حقوقه.

هؤلاء القوم فهموا أن الحياة أبسط من تعقيدات اللف والدوران داخل دائرة مفرغة بلا مخرج، فما هي سوى معادلة لها طرفان لا تستقيم أو تسير حتى دون أحدهما، فهناك مسؤول وهناك مواطن، كل منهم عليه واجبات مطالب بتأديتها قبل أن يفكر في المطالبة بحقوقه، وكل منهم من حقه مساءلة الآخر إذا قصّر فيها أو تمادى ومنح نفسه دون وجه حق ما ليس من حقه.

فالمواطن هنا ليس عبدًا أو أدنى من الشرطي أو المسؤول، لكنه في الوقت ذاته ملزم باحترامه لا لشخصه ولكن لأنه المنوط بتطبيق القانون الذي هو سيف على رقاب الجميع، ولأنه أيضًا موقن بأن من يطبق القانون لن يخرقه أو يسمح لأحد بذلك لأنه فلان أو علّان.

الأمر في غاية البساطة التزام الجميع منحهم البهجة والمتعة والتلذذ بجمال الحياة، فيما كان الافتقار لتلك الأسس في جناح آخر من العالم حوله إلى صراع الجميع ضد الجميع، وأحال الحياة إلى كآبة وأزمات، لتتحول حتى في بهجاتها إلى مآسٍ.

أخيرًا أهديك هذه المفاجأة: الجاتورز هو الفريق الممثل لجامعة فلوريدا في دوري الجامعات، وليس فريقًا يلعب في دوري المحترفين حتى!

وتستمر الرحلة في رحاب العم سام.

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى