في رثاء كتكوت وحيد
سافرتْ ابنتي ملك -5 سنوات- إلى شربين في إجازة، وطلبتْ مني أن أهتم بكتكوتها الصغير الذي أحضرته لها أمّها قبل أيام.
أنا أكره الكتاكيت، والأسماك، والعصافير، والزهور، وكل من يرحل في الوقت غير المناسب، بسبب ضعفه، وعدم قدرته على مواجهة الدنيا. لا أحبّ أن أكون حاضرا لحظات الخروج.
طول عمري أدّعي الخشونة، كي أُخفي ضعفي تجاه الموت، ولا أجد نفسي متوّرطا مع وردة في لحظاتها الأخيرة، أو رفيق سمكة تُحتَضر، أو مُحدّقا في عصفور يزقزق زقزقته النهائية قبل أن يرتقي!
والآن، ملك، تُوقفني أمام نفسي، بعد هذا العمر، وتطلب مني ما لا أطيقه، لكني لا أملك إلا الموافقة للأسف!
كل يوم، تأخذ تليفون أمّها، وتطلبني، هي لا تجيد قراءة اسمي حتى الآن، لكنها تعرف صورتي، فتضغط عليها، ويكون أول ما تقوله:
– ازي كتكوتي يا سيمو؟
– حلو يا حبيبتي، بيسلّم عليكي على فكرة.
– إنت بتهزّر؟ فيه كتكوت بيتكلّم؟
– هو مفيش، بس يمكن عشان وحشاه، نطق، وقال لي أقول لك تيجي بقى.
– هههههه. مش مصدّقاك يا سيمو، بس سلّم لي عليه كويس.
– حاضر.
تمرّ الأيام، البيت لا طعم له دون شقاوتها وشقاوة أخيها، ودون استقبال نورا الحافل لي في الثالثة فجرًا، عندما أعود من عملي، لأجدّ ما لذ وطاب على السفرة.
– أنا كلت في الشغل؟
– مليش فيه، لازم تاكل من اللي كلنا منه.
– هتخن ويطلع لي كرش.
– وإيه المشكلة؟ اكبري وربربي يا بطّة واملِي المكان كلّه حواليا.
فآكل.
صوت الكتكوت يشق صمت الليل، رغم إرهاقي وانتفاخ قدمي بفعل ارتداء الجزمة 18 ساعة متواصلة، أُهرع إليه، علّه يحتاج شيئا، إحنا الاتنين ملناش غير بعض دلوقتي، أجده يتحرّك في علبته الصغيرة، يلقط الطعام، وينظر إليّ نظرات لا أفهمها!
هل يشعر بالوحدة؟
هل يفتقد ملك؟
أعرف أنني لست صديقًا جيدا له، فأنا لا ألاعبه مثلها، ولا أسمح له بالجلوس في حضني، لا أتحدث إليه كثيرا، ولا أنوّع له في أصناف الطعام. هي مهمة ثقيلة على قلبي أصلا، أؤديها مضطرا، وعلى حَرف، مع ذلك، لن أقصّر معك يا رفيق، لا تقلق، حتى تعود صاحبتك، ولتفعلا معا ما تشاءان بعدها!
أطيل النظر إليه، أتوحّد معه، وأتذكّر ثمانية أعوام من العمر قضيتها وحيدًا أنا الآخر، من أجل لقمة العيش، أخرج صباحا ولا أعود إلا ليلا، لأفعل مثلما يفعل هذا الكتكوت بالضبط، أتناول لقيمات، وأدور في فراغ حجرتي، قبل أن أخلد لنوم مضطرب، يسلمني لاستيقاظ خشن في اليوم التالي.
تبدو الإنجازات أحيانا باهتة، لا يسكنها الشغف، عندما تبتعد عنها، وعندما تقع في الزمن الوسيط بينها وبين إنجاز جديد، لعلّك لا تعرف متى سيلين لك، وتمتطي صهوته.
في النهاية تكتشف أنك مضطر للحركة طول الوقت، ولرفع قدمك من مكانها وإنزالها في مكان آخر، حتى لو لم تكن تريد ذلك، الأمر أكبر منك فعليا، وأنت في النهاية مجرد أداة في يد قوى أكبر منك، لا تملك إلا الانصياع لها!
الأيام تمرّ، وعلاقة خفيّة تنمو بيني وبين الكتكوت، رغما عني! أفتقده أحيانا، وأتذكّره في منتصف اليوم -أنا المنفصل عن العالم والتاريخ، والجاهل حتى باحتياجات نفسي!- أتساءل: هل أكل؟ هل شرب؟ هل أحكمتُ إغلاق الكرتونة كي لا يشعر بالبرد؟
أعرف الآن لماذا أحبّته ملك، لأنه أضعف منها، لقد أيقظ داخلها أمومة مبكّرة، تاريخ من الجينات تحرّك في أعماقها، ووصل بها إلى هذه المحطّة، لم يعد كتكوتا ولم تعد ملك، أصبحا طرفين في معادلة الحياة نفسها، تداخلا حتى تماهت الحدود بينهما، واتصلت عوالمهما معا.
نفس الشيء، مع اختلاف الدرجة، بدأ يحدث معي. وهي لحظة أكرهها في نفسي للغاية، عندما أتعلّق وأحنّ وأشتاق، حيث يكون ذلك إيذانا ببداية فصل جديد من الفقد والخسارة!
أتذكّر مرة سقطتْ نورا مريضة. كدتُ أجن، فالحياة في البيت أصبحتْ مشلولة، وأنا فاشل بدرجة قدير جدًا في عمل أي شيء، ماذا سيأكل الأولاد؟ وماذا ستأكل هي؟ ومن سيذكّرها بموعد الدواء؟ اضطررت لمحاولة تعلّم أبجديات الحياة، حاولتُ تنظيف الحوض، وكنس الشقة، وشراء بعض الأغراض من السوق، والطامة الكبرى: طهي بعض المكرونة والبيض! لكن شيئا لم يَسر كما تمنيت. الكون كله تآمر علي وتحداني! فوجئت بنورا فوق رأسي فجأة، متعالية على مرضها وألمها، كقديسة تفرد جناحيها وتحملنا جميعا عليهما، كي ترحمني من لحظة كتلك!
وحدها الأمومة تفعل ذلك. ليس الزواج، ولا الحب، ولا المسؤولية، الأمومة فقط.
أمس، عدتُ متأخرا للبيت، قبل أن أغيّر ملابسي، ذهبتُ وأخرجت الكتكوت من محبسه، وأجلسته أمامي. كان منكمشًا وحزينًا. لأول مرة أتحدّث معه كصديق قديم، قلت له لم أعد قادرا على الحركة. انتهى الشغف بداخلي كشمعة احترقت من طرفيها، وأنتظر إشارة من الله كي أعرف مهمتي التالية. توقف عن الحركة، ورقد في مكانه بلا صوت، قبل أن “يصوصو” فجأة، ثم يعود إلى صمته فجأة.
لم أدر أن هذه نذر الموت، وأن هذه آخر “صوصوة” سأسمعها منه، رغم خبرتي السابقة في الفقد! ربّما لو كنا نشمّ اللحظات الأخيرة، كانت ردود فعلنا ستختلف! مثلا كنت طلبتُ ملك وأيقظتها من النوم، ووضعت التليفون أمام الكتكوت كي تسمع صوته، ويسمع صوتها، بالتأكيد كان هذا سيخفف عنه لحظاته الأخيرة!
ربما كنت قد أخذت كرتونته معي إلى غرفتي، وأضأتُ النور طول الليل، كي يستقبل الموت مفتوح العينين!
ربما لم أكن لأنام أصلا، وهذا الزائر المخيف يحوم في المكان، وحاولت تضليله قدر استطاعتي!
ربما..
لكنه أتى، من وراء ظهري كالعادة، واختطف روحًا صغيرة، بلا حول ولا قوة، وترك لي جسدًا هزيلا مقرفصًا، عيناه مقفلتان، وفمه فيه حبّة طعام لم يكن مقدرًا لها أن تنزل عبر بلعومه!
كتكوتك مات يا ملك، في رعايتي وعهدتي!
بابا الطويل العريض، الذي كان يدّعي القوة الخارقة، ويحملك ويلقي بك لأعلى، قبل أن يلتقطك، ويغلبك في “الريست”، ويسبقك في الجري، ويأكل أضعاف أضعافك: خذلك، وفشل في الحفاظ على روح طيبة، تركتِها في عهدته!
بابا الذي كان يخشى أن يُنجب، لأنه ضعيف، وخائف، وخبرته صفر في كل شيء، ولا يدري كيف يربّيك، وكيف يحميك، وكيف يجعلك سوية في عالم مختل، الآن يواجه أسوأ كوابيسه!
ورغم شوقه لعودتك، فإنه يتمنّى الآن أن تتأخري قليلا، حتى يعرف كيف يتصرّف! ويسأل نفسه بألم: في أي شيء آخر خذلك؟ وفي أي شيء آخر سوف يخذلك؟
بابا هو الذي يحتاج حضنك الآن يا ملك لا أنتِ! ويطلب عفوك، فهل تمنحينه له؟
اقرأ أيضًا:
15 صفة لو لقيتها في بنت اتجوزها
15 صفة لو لقيتيها في راجل اتجوزيه