في رحاب العم سام (4).. مجتمع منحل ذو أخلاق رفيعة!
جمعني لقاء بالصدفة مع سيدة أمريكية أربعينية، جرفني الحديث معها إلى ما يعجبني في بلادها وما يميزها، وما أبرز الفروق التي أشعر بها بين هنا وهناك، أبديت لها في مجمل حديثي إعجابي بأخلاقيات واحترام الناس لبعضها البعض والعديد من الصفات الحميدة، إلا أنها استوقفتني عند نقطة، أبدت عندها اهتمامًا مضاعفًا!
لا أدّعي أنني سفير للنوايا الحسنة أو ممثل لوطني في الغربة، لكن دائمًا ما أحاول إبراز مميزاتها وأن أكون بكلامي وتصرفاتي نموذجًا قد يغيّر رأي البعض المغلوط في المنطقة التي أتيت منها، ولهم في ذلك كل العذر.
وما يعزز ذلك مع الأسف كثير من المصريين المقيمين الذين يتشدقون بما يظنونه قضية عالمية، فينقلون صورة مغلوطة ويصوّرون لمن يحتك بهم واقعًا كاذبًا عن بلاد يحملون مع كل أسف جنسيتها وليس جوازها، في كل الأحوال حيث إن كثيرًا منهم حتى تخلّى عن جنسيتها أو رافقها بأخرى، ويتحدث وكأنه حامي الحمى وثائر الثوار.
نعود لحواري الشيق مع السيدة التي استوقفتني عندما أبديت لها أني أجد أن من أهم مميزات مجتمعاتنا عنهم هو التماسك العائلي، رغم تصدعه النسبي في آخر الأعوام، والترابط الذي لا أراه واضحًا عندهم، وقد أبدت اندهاشًا حقيقيًا عندما علمت أني لم أغادر منزل أهلي إلا إلى منزل الزوجية وأنا في الثلاثين من عمري.
قصّت لي سريعًا مشاكلها مع ابنتها، صاحبة الأربعة عشر ربيعًا والتي بدأت في التفكير والاستعداد للاستقلال بسكنها وحياتها، وأنها فعلت الأمر ذاته وهي في عمرها، وأنها تعيش حاليًا بعيدًا عن أمها بما يقارب الـ3 ساعات طيرانا، وأحيانًا تمر سنوات دون أن يرين بعضهن، معترفة بإعجابها بالنسق الاجتماعي في تلك الجزئية لدينا، ومتمنية أن لو كان الوضع عندهم كذلك، ومشيرة إلى أن ذلك الأمر يسبّب مشاكل هائلة، خاصة على الجانب النفسي لكثير من الأمريكيين.
إذًا فنحن أمام مجتمع أنهكته المشاكل الأسرية وأزمات النسب، يمنح المثليين الحق في الزواج، إباحته للجنس والخمر مثل الطعام والشراب، لا يضع الدين أيًا كان مسمّاه ضمن أولوياته –فهو شعب ليس متدينًا بطبعه- إلا أنك تجد أن الأخلاق جزءا متأصل من تكوين المجتمع، ومحركا حقيقي للعلاقات بين البشر داخله.. كيف؟
لو كنت ترى أن الأمثلة السابق ذكرها تعني أنه مجتمع بلا أخلاق فقد يكون معك بعض الحق نظريًا، ولكني أدعوك لإعادة التفكير مجددًا، ولكن بشرط أن تحدد أولًا معنى الأخلاق وأسسها، فلو كانت الأخلاق بالنسبة لك هي الرداء الطويل للنساء والقصير للرجال أو غطاء فوق الرأس أو حتى على الوجه، أو عدم ترك الفرض، والاتصال الدائم مع المسجد أو الكنيسة، وعمل “شير” لبعض الآيات، أو حتى بعض الفتاوى “المفتكسة” على مواقع التواصل الاجتماعي، ودخول المرأة على تلك المواقع باسم مستعار كـ”الواقفة على باب الجنة” وأشياء من هذا القبيل، مع تحريم وضع الصور الشخصية لمنع الفتنة بالتأكيد، فيؤسفني أن أقول لك إنك مخطئ!
فالأخلاق فعل واحترام وأمانة وإتقان وصوت منخفض وتفانٍ واحترام للوطن واحترام للآخر وحرياته ومعتقداته، وتبسم في وجه الغريب قبل القريب، وإيجابية وبحث عن الأفضل، ووضع أدبيات التعامل كدستور للحياة.
أكرر سؤالي.. كيف؟
كيف لمجتمع لديه كل تلك المشاكل ويمتلك في الوقت ذاته هذا الكم من الأدب والأخلاق التي تفتقد لأدناها مجتمعات لا يغادر معظم شعبها دور العبادة، ويضعون أو يدّعون أن الدين فوق كل اعتبار، ولديهم من الخصائص والمميزات ما يتمنى غيرهم نصفها؟
أولًا القانون.. فالقانون كما هو موجود هنا فإنه موجود هناك، وفي كل مكان ولكن العبرة في التطبيق، وعن تلك النقطة أدعوك لقراءة الحلقة الثانية “للعدالة هنا وجوه كثيرة”، وكيف لا يمكن إقامة أمة قوية دون إفشاء العدل بين الناس، بداية من الشارع وليس ساحات المحاكم.
ثانيًا التعليم.. وعن التعليم يطول الحديث، فالمدرسة هنا ليست مكانًا لحشو الأدمغة بالفراغ وتفريغ جيل بعد جيل من أنصاف المتعلمين وأنصاف البشر أيضًا، فهنا يؤسس الطفل على احترام الآخر وتقديس العلم وفهم معنى الحرية وأين ومتى تنتهي، ولماذا تصاغ القوانين وكيف تحترم، وأن الأخلاق هي الركن الذي صعدت عليه أمتهم وبه ستحافظ على ما وصلت إليه.
قد يرى البعض أن الظروف مختلفة وأن هذا التقدم الذي أتحدث عنه والعقلية التي أتغنى بها لم تأت بين عشية وضحاها، وأنها نتاج مئات السنين من البناء والتأسيس والعلم والدراسة، ولهؤلاء أوجه دعوة للبحث عن حلقة الإعلامي المخلص أحمد الشقيري في برنامجه المرجعي “خواطر” عن سنغافورة، وكيف تحولت في بضع سنوات من دولة تعاني كل أشكال التخلف والجهل والفقر والتنازع العرقي والديني والتفسخ، إلى واحدة من أقوى الاقتصاديات الصاعدة على مستوى العالم، رغم أن ما كانت تعانيه من مشاكل أضعاف ما نعانيه!
هذا ليس النموذج الوحيد، فالحلول كثيرة لو توافرت الإرادة، وعليك أيضًا القراءة ولو قليلًا عن رجل الألفية الماضية “نيلسون مانديلا” وسيتضح المعنى جليًا.
وأخيرًا وليس آخرًا: “الإرادة” وهي حجر الزاوية لأي نهوض، وعنها حديثنا المقبل إن شاء الله.
وللحديث بقية إذا كان في العمر بقية.
اقرأ أيضا: