الجزَّار والمجزرة.. ووهم السرقة الأدبية
حملة ضارية قامت ضدّ الشاعر مصطفى الجزار، تتهمه بأبشع ما يُتَّهَم به شاعر: سرقة الشعر، في أقرب وأحب قصائده إلى قلبه “عيون عبلة”.
هل أكتب هذا المقال دفاعًا عن الجزار؟
بالطبع لا، أنا لا أراه متهَمًا أصلًا، فتفاصيل هذه الحملة فيها من الكوميديا الهزلية قدر مما فيها من السخافة. فلماذا أكتب المقال إذًا؟
أكتبه أولًا استجابةً لاستفزازٍ تَعرَّضت له بعد قراءة مقال نقديّ، قال صاحبه إنه ينحِّي العاطفة جانبًا، ويحرص على تحرِّي العدل والحياد، وطَوال المقال لم أجد منه لا عدلًا ولا حيادًا، ولا تحرِّيًا أصلًا.
وأكتبه ثانيًا لأنني وجدتُ عند كل مَن أثار هذا الأمر إما جهلًا بمعنى السرقة الأدبية، وإما “زيطة مع الزائطين”، وإما انحيازًا لصديقه صاحب القصيدة التي يراها أصلية، أو صديقه ابن صاحب القصيدة التي يراها أصلية.
وصاحب العذر الوحيد عندي بين هؤلاء هو ذلك الابن البارّ الذي يبحث عن حق أبيه إن كان لأبيه حق، فلو كنت مكانه لأقمتُ الدنيا وما أقعدتُها إلا إذا تَثبَّتُّ من أن أبي لم يُسرَق، أو أعدتُ حق أبي الأدبي، والماديّ إن وُجد.
الأزمة تخصّ قصيدة “عيون عبلة” التي كتبها الجزار منذ سنوات، وانتشرت على نطاق واسع جدًّا، حتى أنشدها الداعية محمد العريفي وكثيرون غيره من المنشدين… وفجأة، ظهر مؤخَّرًا بعض مَن يقول إن القصيدة ليست للجزار، وإنها للشاعر الراحل محمد محسن.
وللعلم، فالقصيدة ليست قصيدة واحدة، بل قصيدتان، بينهما تشابه كبير، كبير جدًّا في الحقيقة، فكلتاهما تستدعي شخصية عنترة، وتتناول الواقع العربي المزري، ومكتوبة على بحر الكامل، وقافيتها راء مفتوحة تتبعها هاء ساكنة، بلا تأسيس.
كذلك تشابهت القصيدتان في كثير من الصور الشعرية، وكثير من ألفاظ القافية، وكثير من العبارات المجلوبة من معلَّقة عنترة “هل غادر الشعراءُ من متردَّمِ؟”.
تأمّل معي هذه المتشابهات:
الجزار:
كَفْكِف دموعَكَ وانسحِبْ يا عنترة
محسن:
أغمد حسامك وانسحب يا عنترة
الجزار:
سقطَت من العِقدِ الثمينِ الجوهرة
محسن:
سرقوا من العقد الثمين الجوهرة
الجزار:
يا دارَ عبلةَ بالعراقِ تكلّمي
محسن:
(يا دار عبلة بالجوار تكلّمى)
الجزار:
وابعثْ لعبلةَ في العراقِ تأسُّفًا
وابعثْ لها في القدسِ قبلَ الغرغرة
محسن:
قبّل ثرى بغداد عبلة إنما
ثغر الحبيبة مزقته المجزرة
وابعث لها فى القدس عذرًا عبلتى
ما عاد يُجدِي الحب.. إنك مجبرة
الجزار:
لو كانَ يدري ما المحاورةُ اشتكى
ولَصاحَ في وجهِ القطيعِ وحذَّرَه
محسن:
(لو كان يدرى ما المحاورة اشتكى)
وملا صداه الكون فاق الزمجرة
ولمجلس الأمن اشتكى جرم البغاة
أفاض عن ظلم العدوّ وأنذره
الجزار:
هذا الحصانُ يرى المَدافعَ حولَهُ
متأهِّباتٍ.. والقذائفَ مُشهَرَه
محسن:
ماذا تفيد الخيل بين الطائرات
… أو القذائف والمدافع مشهَرَة
الجزار:
يا فارسَ البيداءِ.. صِرتَ فريسةً
عبدًا ذليلًا أسودًا ما أحقرَه
محسن:
عجبًا لعبسٍ جهلهم حرّرتهم
فدَعَوك عبدا أسودًا ما أحقره
الجزار:
فاجمعْ مَفاخِرَكَ القديمةَ كلَّها
واجعلْ لها مِن قاعِ صدرِكَ مقبرة
محسن:
حرموك عبلة والنياق وكل مجدك ..
وانتصارك أودعوه المقبرة
الجزار:
متطرِّفًا .. متخلِّفًا.. ومخالِفًا
نَسَبوا لكَ الإرهابَ.. صِرتَ معسكَرَه
محسن:
وَصَمُوكَ بالإرهاب وهو صناعة
غربية لأبالسٍ متحضّرة
الجزار:
وابعثْ لها في القدسِ قبل الغرغرة
محسن:
صحّى صحاب الكهف قبل الغرغرة
الجزار:
ضاعت عُبَيلةُ.. والنياقُ.. ودارُها
لم يبقَ شيءٌ بَعدَها كي نخسرَه
محسن:
جدّد حياتك بالشهادة والفدا
ماذا تَبقَّى عندنا كى نخسره؟!
الجزار:
فأتى العدوُّ مُسلَّحًا، بشقاقِهم
ونفاقِهم، وأقام فيهم منبرَه
محسن:
وتسلحوا بشقاقنا فتفوقوا
فَلّوا الحديد بفتنة متجبرة
الجزار:
هذِي يدُ الأوطانِ تجزي أهلَها
مَن يقترفْ في حقّها شرًّا.. يَرَه
محسن:
هل ضاع خيرك فى صياصيهم سدى
يا ويحهم من يقترف شرًّا يره
إذًا قد يكون هذا دليلًا على أن أحد الشاعرَين تأثر بالآخر، أو حتى “سرق منه”، مع تحفُّظي التامّ على الوصف بالسرقة، لأن السرقة الأدبية في الشعر تستدعي أن يأخذ شاعرٌ من آخَر بيتًا كاملًا على الأقل، وهو ما لم يحدث في القصيدتين.
طيب، أي شاعرَينا تأثّر بالآخَر أو حاول مجاراته؟
القرائن التي يتخذها أصحاب محمد محسن لإثبات أن قصيدته هي الأصل هي:
1- أن القصيدة مكتوبة في التسعينيات بخط الشاعر على ورق عيادته الخاصة.
2- القصيدة منشورة للشاعر محمد محسن فى كتاب رابطة الأدب العربي ٢٠٠٨، برقم إيداع 1546/2008.
3- قصيدة محمد محسن تتألف من اثنين وأربعين بيتًا، بينما قصيدة الجزار سبعة وعشرون بيتًا فقط، والجزء يأخذ من الكل عادةً.
4- أن أهل محمد محسن سبقوا إلى الشكوى، والجزار لم يشكُ، وهذا دليل على أنهم أصحاب الحق.
5- أن قصيدة محمد محسن فيها كلمات تدلّ على شخصيته العلمية، مثل “الليزر” و”قنابلًا ذريّةً”.
فهل هذه أدلّة على أن قصيدة محمد محسن هي الأصل، إذا افترضنا وجود أصل وفرع؟
…
اللجوء إلى أدلّة السبق في النشر في هذه الحالة لن تكون أبدًا في صالح الراحل محمد محسن، لماذا؟ لهذه الأسباب:
1- لا يمكن الأخذ بأن الشاعر خطّها بيده على ورقة من ورق عيادته مدوَّن عليها تاريخ قديم، فيمكنني في هذه الحالة أن آتي بورقة من أجندة قديمة من الثمانينيات، وأكتب القصيدتين متتاليتين، وأنسبهما معًا إلى نفسي.
2- الأدلّة الموثَّقة تقول إن الجزار نشر القصيدة بتاريخ 5 ديسمبر 2006 على موقع رابطة الواحة الثقافية، أي قبل أول نشر موثَّق لمحمد محسن بعامَين، وهذا هو الرابط
3- الجزار شارك بالقصيدة في مسابقة أمير الشعراء عام 2007، قبل أول نشر لقصيدة محمد محسن بعام كامل.
4- قصيدة الجزار منشورة في مجلة “التبيان” بتاريخ فبراير 2007، أي قبل أكثر من عام من نشر قصيدة محمد محسن.
5- وإذ أخذنا بالمخطوطات، فإن قصيدة الجزار مخطوطة بيده بتاريخ خطّه بيده أيضًا، في فبراير 2006.
6- وإذا أخذنا بأن الجزء يأخذ من الكل، والأسبقية للقصيدة الأكثر أبياتًا، فإن الشاعر عبد الرحمن محمود عبد الرحمن عارض “عيون عبلة” الجزار بقصيدة من 102 بيت، يقول في أولها:
اَهْرِقْ دُمُوْعَكَ وَارْثِهَاْ يَا عَنْتَرَةْ فَالنَّارُ في جَوْفِ البِلادِ مُسَعَّرَةْ
ولم يقُل أحد إنه أولى بالأسبقية رغم أن قصيدته أربعة أمثال قصيدة الجزار في عدد الأبيات، بالإضافة إلى أنها أكثر من ضعف قصيدة محمد محسن.
إذًا، إذا لجأنا إلى المخطوطات فالأسبقية لقصيدة الجزار، وإذا لجأنا إلى أسبقية النشر فالأسبقية لقصيدة الجزار، وإذا لجأنا إلى الانتشار، فالأولوية لقصيدة الجزار، وإذا لجأنا إلى عدد الأبيات فالأولوية لشاعر ثالث…
أمر آخَر يجب طرحه هنا، هو أن الشاعرَين لم يلتقيا من قبل، واحتاج الأمر إلى نحو عشر سنوات حتى يكتشف أهل الراحل محمد محسن وجود قصيدة الجزار، على الرغم من الانتشار الشديد لها، مصريًّا وعربيًّا، وعلى الرغم من شهرة صاحبها بسبب برنامج ومسابقة “أمير الشعراء”، أي إن الشاعرَين لم يلتقيا، فمتى أُتيحت الفرصة لأي منهما للأخذ عن الآخَر؟
إذا كان أحد الشاعرين أخذ عن الآخَر، فيقينًا أن محسن أخذ عن الجزار، لأن المسوّغ الوحيد -مع عدم التقاء الشاعرين- لاطّلاع أحدهما على قصيدة الآخَر، هو انتشار قصيدة الآخَر، و”عيون عبلة” الجزار شديدة الانتشار، وربما أراد معارضتها أو مُشاكَلَتها
فهل أخذ محمد محسن رحمه الله عن الجزار؟ هل أخذ الجزار عن محمد محسن؟
لا أدري، ولا أظنّ، بل يقيني أن كليهما لم يأخذ عن الآخَر، لماذا؟ وما سرّ هذا التشابه الكبير بين القصيدتين؟
الأمر في رأيي بسيط وواضح جدًّا، علينا فقط أن نطرح أمامنا أوجه التشابه:
1- موضوع القصيدتين.
2- المخاطَب في القصيدتين.
3- البحر والقافية في القصيدتين.
4- كثير من صور القصيدتين.
5- كثير من أفكار القصيدتين.
هل ترون أن هذه خمسة أوجه تشابه؟
حسنٌ، أنا لا أرى ذلك، أنا أراه وجهًا واحدًا، قد تقود إليه المصادفة كثيرًا، هذا الوجه من أوجه التشابه هو -فقط- استدعاء شخصية عنترة لحوار حول حال العرب الآن… هذا الاستدعاء الذي جعل النداء في القصيدة “يا عنترة” موجِّهًا أوليًّا للقافية، فأصبحت القصيدة رائيَّة راؤها مفتوحة بعدها هاء ساكنة، فكان من الطبيعي أن يأتي في القافية ألفاظ مثل “جوهرة، مجزرة، زمجرة، ثرثرة، مقبرة، معذرة، إلخ”، هذا الاستدعاء الذي جعل بحر القافية على أشهر قصائد عنترة، معلَّقته “هل غادر الشعراءُ من متردَّمِ؟”، فلما كانت القصيدة على بحر المعلَّقة، كان من الطبيعي أن يستدعي الشاعر من المعلَّقة ما يحاور عنترة به، فكان من الطبيعي أن يظهر في القصيدة عبارات مثل “هلا سألت الخيل” و”لو كان يدري ما المحاورة اشتكى” و”يا دار عبلة بالعراق تكلمي”، وغيرها.
وأقول هنا إننا إذا أرسلنا قصيدة لشاعر قديم إلى 10 شعراء، وطلبنا من كل منهم أن يصوغ حوارًا مع هذا الشاعر القديم على نفس بحر وقافية قصيدته، فإن النتائج العشر لن يختلف بعضها كثيرًا عن بعض، بل سيكون التشابه بينها كبيرًا جدًّا، فكل الشعراء سيكتبون على نفس البحر والقافية، وفي نفس الموضوع، وسيستعملون مفردات قصيدة الشاعر القديم، فيكون التشابه ليس مجرد احتمال، بل نتيجة حتمية، والاختلاف سيكون هو الاستثناء.
هل أذكّركم هنا بمثال مشهور؟
لا بأس، مَن منَّا لا يعرف رائعة أحمد شوقي “مضناك جفاه مرقده”، هذه القصيدة التي تَغنَّى بها أمير الشعراء معارِضًا الحصري القيرواني في قصيدته “يا ليلُ الصبُّ متى غده؟”؟
في أحد بيتين من أبيات القصيدة يقول شوقي:
جحدت عيناك ذكيَّ دمي … أكذلك خدُّك يجحده؟
قد عزّ شهودي إذ رمَتَا … فأشرتُ لخدك أُشهِده
ويقول الحصري القيرواني:
يا مَن جحدَت عيناك دمي … وعلى خدَّيك تورُّدُه
خدَّاك قد اعترفا بدمي … فعلامَ جفونك تجحده؟
تشابه شبه تام في المعنى واللفظ والصورة، وشوقي في حالة وعي تامّ بما يفعله، ورغم هذا فإنه ليس سرقة، بل مجرد معارضة… فما بالكم بشاعرَين يعارضان شاعرًا قديمًا، على نفس البحر والقافية وفي نفس الموضوع، أليس هذا خليقًا بأن يكون التشابه أشدّ؟
…
باختصار، لا أرى أن أي الشاعرين أخذ من الآخَر، وإذا افترضنا أن أحدهما لا بد أن يكون أخذ عن الآخر، فإن القصيدة الأصلية -بلا شك- هي التي اشتهرت فوصلت إلى صاحب القصيدة الأقلّ شهرة، حتى إنها كُتب لها عدد ضخم من المعارضات المُعلَن أنها “معارضة قصيدة عيون عبلة للشاعر مصطفى الجزار”، تحت يدي منها الآن خمس عشرة قصيدة، لخمسة عشر شاعرًا، متفاوتة في الحجم والجودة والكفاءة، منها ما هو ضعيف، وما هو رائع، منهم عبد الرحمن محمود عبد الرحمن، ومحمود إبراهيم خلف الله، ووحيد شلال، وعيد فهمي، وكمال المرزوقي، ومحسن الخميس، وحارث خمودي، ومحمود جابر، وبن منصور لمجد، ومحمد جمالي، وغيرهم.
رحم الله الشاعر محمد محسن، وطيّب ثراه، ورزقه بر ابنه الذي يبحث عن حقه، ابنه الذي أنصحه فأقول إن ما حدث هنا ليس سرقةً، أبوك لم يُسرَق ولم يَسرِق، أبوك لم يتأثّر ولم يُتأثّر به، أبوك شاعر كبير، رحل، وترك جوهرة قيِّمة هي شعره، فانشره واسعَ لتخليد اسمه بشعره، ولا تنصب هذه المجزرة ظلمًا للجزار، فإن يد الظلم لا تبطش إلا بصاحبها.
محمود عبد الرازق جمعة
شاعر ولغوي ومؤسس صفحة نحو وصرف